قتل غزال مقدس’ عودة إلى ألغاز لانثيموس العبثية

أمير  العمري

لا أعتقد أن هواة تصنيف الأفلام طبقا لنظام تصنيف الأنواع الأميركي يمكن أن ينجحوا في حصر الفيلم الجديد “قتل غزال مقدس” للمخرج اليوناني يوغوس لانتيموس (43 سنة) داخل نوع محدد، فهو ببساطة ليس فيلما من أفلام الرعب كما أنه ليس من أفلام الإثارة والجريمة (ثريلر) أو الكوميديا أو الدراما النفسية، فمن الممكن العثور فيه على ملامح لكل هذه الأنواع مجتمعة، لكنه ينتمي أساسا إلى سينما الفكر والخيال والفن الرفيع والتعبير عن رؤية مدهشة للعالم خاصة بصانعه، وهي امتداد لحسه العبثي الساخر كما تلوح في أفلامه السابقة، وهنا يصدق القول إن لانتيموس يصنع فيلما واحدا ممتدا أو يخرج الفيلم نفسه بتنويعات جديدة مهما اختلف الممثلون أو اختلفت اللغة المستخدمة في الفيلم.
من الأسطورة

عنوان الفيلم مستمد من الأسطورة اليونانية التي تتلخص باختصار شديد في ضرورة التضحية بأحد أفراد العائلة تجنّبا لهبوط لعنة الآلهة على أفراد العائلة جميعا، فهو إذن عنوان “رمزي” لا علاقة له بقتل أي غزال في الغابة.

نحن أمام أسرة من الطبقة الراقية في المجتمع تتكون من الأب “ستيفن” (كولن فاريل) وهو جراح قلوب وزوجته “آن” (نيكول كيدمان) طبيبة العيون، والابنة “كيم” (رافي كاسيدي) وهي طالبة في الثالثة عشرة من عمرها، والابن “بوب” (ساني سولجيك) وهو في نحو السابعة.

هذه الأسرة التي تتمتع بمستوى اجتماعي رفيع، تقطن منزلا فسيحا تتوفر فيه كل مظاهر الحياة الحديثة المريحة، ينتمي الأب والأم إلى دائرة العلم، أي بعيدا عن الخرافة، لكنهما سيقفان عاجزين أمام ما ستتعرض له الأسرة من مأزق عجيب، يتناقض تماما مع أي تفسير علمي.

العلاقة بين الزوج والزوجة في الفراش تخضع لطقوس غريبة، فهي تبدو كما لو كانت علاقة خضوع سلبي من جانب المرأة، ونهم من جانب الرجل لا يعكس رغبة حقيقية، بل حاجة لتفريغ طاقة.

ستيفن على صلة ما بشاب اسمه مارتن (باري كيوغان) يمنحه ستيفن الهدايا، ويتعامل معه بود ولكن بحذر، أما مارتن فهو يظهر فجأة في المستشفى الذي يعمل فيه ستيفن، يقدمه ستيفن لزميله طبيب التخدير “ماتيو” (بيل كامب) باعتباره زميلا لابنته كيم، وأنه يريد أن يدرس الطب

ويرغب في الاطلاع على مسار الأمور في المستشفى.

أما مارتن، فهو الابن الوحيد لمريض سابق أجرى له ستيفن عملية جراحية في القلب، ولكنه مات خلال العملية وكان في السادسة والأربعين من عمره، كان ذلك قبل عشر سنوات، ولعل هذا هو سبب تعامل ستيفن الحذر معه واستجابته له ومحاولة كسب وده عن طريق تقديم الهدايا له ثم دعوته إلى منزله وتقديمه لأفراد أسرته.

يواصل مارتن الاتصال بستيفن، يدعوه تارة لمقابلته وتبادل الحديث معه، ثم يدعوه لتناول طعام العشاء في المنزل مع والدته الأرملة الجذابة، وعندما يستجيب ستيفن على مضض، يحاول مارتن أن يدفعه دفعا لإقامة علاقة جنسية مع أمه التي تعاني من الحرمان، وتأخذ هي بزمام المبادرة تجاه ستيفن، لكنه يرفض ويغادر غاضبا.

سرعان ما يسقط بوب ابن ستيفن مشلولا ويرفض تناول الطعام بعد نقله إلى المستشفى، لكن الأطباء يعجزون عن التوصل إلى معرفة سبب إصابته بالشلل، كما يفشلون في علاجه، هنا يعلن مارتن لستيفن أنه مسؤول عن قتل والده، وأن من العدالة أن يدفع الثمن، ويطالبه بضرورة التكفير عن الذنب بالتخلص من أحد أفراد أسرته طواعية، وإلا يفقد الثلاثة: الزوجة والابن والابنة.

وبعد إصابة الابنة كيم بدورها بالشلل يسري الفزع داخل الأسرة ويتبادل ستيفن وآن الاتهامات، وتبدأ آن بالبحث عن حقيقة العملية الجراحية التي أجراها ستيفن لوالد مارتن لتعرف أنه كان قد تناول الخمر قبلها، وأن الخطأ خطأه هو وليس خطأ طبيب التخدير.

ترفض كيم تناول الطعام، ثم يعتقل ستيفن الشاب مارتن في قبو المنزل ويقوم بتعذيبه حتى يرضخ ويستخدم تأثيره النفسي الخفي، الذي لا يقدم له الفيلم تفسيرا، لإعادة بوب وكيم إلى السير بشكل طبيعي، لكن مارتن يبقى على يقينه من ضرورة وقوع فعل “التكفير”.

هذه المسارات التي تبدو “طبيعية” أو “مفهومة” داخل سياق سلس يضفي عليها لانثيموس بأسلوبه الخاص طابعا مشوبا بالعبث، فالعالم من الداخل ليس كما يبدو لنا من الخارج.

العلاقة الجنسية بين الزوجين مثلا تتصف هي أيضا بالغرابة، كما تتصف علاقة آن الزوجة بطبيب التخدير الذي يطلب من آن الحصول على مقابل يتمثل في “متعة الجنس اليدوي” مقابل تزويدها بمعلومات عن العملية التي شارك فيها كطبيب للتخدير مع ستيفن وتسببت في موت والد مارتن.
رؤية عبثية

يكشف الحوار عن التلاعب العبثي الساخر المضحك الذي يمارسه لانثيموس هنا، فالابنة كيم في أول لقاء لها مع مارتن أثناء استضافته على العشاء تصرّح أمام الجميع بأنها عرفت للمرة الأولى الدورة الشهرية، ومارتن يقول في أحد حواراته الساخنة مع ستيفن إنه يمكن أن يعتبر ما يحدث مجرد “حالة رمزية” أو “ميتافور”.

وعندما يقابل مارتن ستيفن في مكتبه بالمستشفى يسأله عن كمية الشعر الذي يوجد تحت إبطه ثم يطلب منه أن يزيح قميصه ليرى بنفسه، والابنة كيم تطلب من شقيقها بوب الذي يرقد بين الحياة والموت أن يسمح لها بالحصول على جهاز الاستماع الموسيقي الخاص به بعد أن يموت، وعندما تراه ينزف دما من عينيه -كما تنبّأ مارتن- تنادي على والدها لتزف إليه النبأ وهي في حالة ابتهاج، وعندما يرفض ستيفن مداعبات والدة مارتن الجنسية ويقرر المغادرة ترجوه أن يبقى فقط لكي “يتذوق طعم التورتة التي أعدتها”.. وقبل أن تستسلم آن لممارسة الجنس مع ستيفن تسأله “هل تريد وضع التخدير الكلي؟”، أي أن هناك قائمة يختاران منها.. وهكذا.

ديكور منزل الأسرة الفسيح يجمع بين مظاهر الثراء والحداثة، وتعكس غرابة تصميم الأسقف بتكويناتها التكعيبية اضطرابا ما، خاصة أسقف غرف النوم، ويوحي الطابع العتيق للمنزل من أسفل بأننا انتقلنا داخل أقبية تنتمي للعصور الوسطى، حيث توجد غرفة للتعذيب وبندقية صيد قديمة.

الكاميرا تتحرك كثيرا، تجوس داخل الردهات الطويلة الممتدة وكأنها تتلصّص، تسير وراء الشخصيات، تتابع الشخصيات أحيانا من زوايا مرتفعة غريبة تعكس الطابع الغرائبي للموضوع، تسير في حركة “ترافلنغ” إلى الأمام وإلى الوراء تتابع سير الشخصيات داخل ردهات المستشفى، مما يمنح المشهد طابعا خاصا ينقل للمتفرج إحساسا بالتنويم، بالغرابة، وبالاغتراب عن الواقع، إننا أمام مزيج من برغمان وهيتشكوك ومن بريسون وديفيد لينش، مع أحداث غريبة لكنها قريبة، وصور تخفي بقدر ما تصرح، ليس هناك تفسيرا لما نراه من وقائع غريبة، ومارتن قد يكون هو أداة التطهير الإلهية أو أداة الانتقام وتحقيق العدالة.

المونتاج داخل المشهد يجعل اللقطات تنتقل بين الوجوه عن قرب، تركز طويلا على الانفعالات المكتومة ونظرات الشرود في وجه مارتن بوجه خاص، وشعور آن بالقلق الشديد مع الرغبة في التحكم في النفس.

ولا شك أن أداء الممثلين جميعا وفي مقدمتهم نيكول كيدمان وكولن فاريل والممثل الصاعد باري كيوغان في دور مارتن، يلعب دورا أساسيا في توصيل ذلك الإحساس بالرعب إلى المشاهدين، والتعبير بدقة وتحكم مثير للإعجاب عن الانفعالات الداخلية المتناقضة التي تنتقل بين الحيرة والخوف والشك والرفض. إننا أمام طرح جديد مثير لفكرة تطبيق العدالة والانتقام ولو عن طريق مصدر قد لا يكون إنسانيا تماما أو أن فيه شيئا ينتمي إلى قوة أكبر تدفعه لتحقيق الانتقام.

على كل المستويات الفيلم جدير بالتقدير، رغم ما قوبل به في نهاية عرضه للنقاد والصحافيين في مهرجان كان بصيحات استهجان، فما أكثر الأفلام التي تصدم المشاهدين، لكنها تصبح فيما بعد من الكلاسيكيات السينمائية، ألم يكن هذا نفسه استقبال البعض لفيلم المخرج النمساوي مايكل هانيكه “يوم سعيد؟”، لكن هذا موضوع آخر.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى