إيهاب بسيسو : مشروعنا الثقافي «يحاصر الحصار» منفتحاً على الشتات والداخل الفلسطيني المهمّش

عبده وازن

قد لا يحتاج هذا الحوار الطويل مع وزير الثقافة الفلسطيني الشاعر إيهاب بسيسو إلى مقدمة فهو يقدم نفسه بنفسه من خلال القضايا المتعددة التي تم نقاشها، وبعضها ذو طابع إشكالي وسجالي وينسحب على التحديات الراهنة التي تشهدها فلسطين في شتى أطيافها. كان الوزير بسيسو في زيارة إلى بيروت جال فيها على مراجع سياسية وثقافية، لبنانية وفلسطينية حاملاً معه رؤية السلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني إلى أمور تعني البلدين اللذين لم تتضح العلاقة تمام الاتضاح سياسياً بينهما. فلسطينيو السلطة يزورون لبنان، أما اللبنانيون فممنوع عليهم زيارة الأراضي الفلسطينية المحررة فهذه الزيارة تصب في خانة التطبيع أي الخيانة.
التقت «الحياة» الوزير الشاب في بيروت خلال زيارته، وكان هذا الحوار الطويل.
< عندما نقول إن الشاعر إيهاب بسيسو وزير للثقافة الفلسطينية ماذا يعني هذا التوصيف؟ هل أنت وزير للثقافة داخل حدود السلطة الفلسطينية أم أن وزارتك تشمل الشتات الفلسطيني أيضاً وفلسطينيي عام 1948؟
– إن الثقافة الفلسطينية وفق رؤيتي ومفهومي للعمل الثقافي لا تخضع لميزان الجغرافيا بمقدار ما تمثل انعكاساً للرؤية والحلم الفلسطيني الذي حملته النكبة منذ عام 1948 إلى مناف وأوجاع عدة، لكنه على رغم قسوة المسافة والجدران والأسلاك الشائكة، يصر على نحت ملامحنا من خلال أشكال متعددة للإبداع. الثقافة تعبير عن هذا الحلم الذي هو أشمل من حالة الجغرافيا الراهنة. لذا تسعى وزارة الثقافة من خلال هذه الرؤية إلى أن تكون راعياً ومحركاً وداعماً للعمل الثقافي الفلسطيني بغض النظر عن الجغرافيا وتقسيماتها السياسية.
> انطلاقاً من هذا التوصيف كيف يمكنك كوزير أن توحد بين الثقافة المركزية داخل حدود السلطة وبين الأطراف؟ أي كيف تتعامل مع الشتات والداخل المحتل؟ هل أنت على علاقة كوزير بالشتات وهذا الداخل؟
– بكل تأكيد، فمن خلال مد جسور العمل الثقافي نحاول خلق حالة ثقافية ذات حضور فعال، الأمر الذي نراه ضرورة وطنية وثقافية وإنسانية أيضاً لصون الرواية الفلسطينية من محاولات عزلها عن سياقها التاريخي والجغرافي أيضاً، أو محاولات تهميشها في مواجهة رواية الاستعمار الاستيطاني. إن جعل الثقافة جسراً أساسياً يصل بين مكونات الوجود والإبداع الفلسطيني يمثل من وجهة نظري فعل التحدي في مواجهة سياسة التهميش والمحو والعزل التي يسعى الاحتلال الإسرئيلي إلى تكريسها واقعاً يومياً من خلال سياساته وممارساته المختلفة، ولكننا على رغم هذا نواصل فعل التحدي من خلال الفاعليات الثقافية التي تنظمها وتدعمها وزارة الثقافة، كمعرض فلسطين الدولي للكتاب وأخيراً ملتقى فلسطين الأول للرواية العربية، إضافة إلى المهرجانات والفاعليات الثقافية المختلفة والتي تشكل بالنسبة إلينا منصة من منصات التواصل مع المبدعين والمبدعات في الشتات وأيضاً في الداخل.
لدينا خطة طموحة ورؤية لتفعيل العلاقة مع الإبداع الثقافي الفلسطيني في الشتات، وقد بدأنا فعلاً في تطبيق ذلك من خلال فاعليات وزارة الثقافة العام الماضي وهذا العام كما أننا نولي عناية خاصة للمشهد الثقافي الفلسطيني في الداخل، على رغم كل التحديات والعراقيل.
هناك حالة ثقافية فلسطينية طموحة في الداخل وقادرة على انتزاع حضورها بكل جدارة في المشهد الثقافي الفلسطيني على نحو خاص والمشهد الثقافي العربي في شكل عام، وعلينا العمل من أجل تثبيت هذا الإبداع كجزء حيوي وأساسي ضمن الفعل الثقافي الفلسطيني.
> إذا رجعنا اليوم إلى مصطلح الثقافة الفلسطينية بعد المراحل التي اجتازتها هذه الثقافة والتحولات التي شهدتها خلال القرن العشرين كيف تحدد مفهوم هذا الثقافة؟ هل هناك ثقافة فلسطينية واحدة مثلما هناك شعر فلسطيني ورواية فلسطينية، أم أن الثقافة تمثل حال التناقضات التي تحياها فلسطين؟
– الثقافة الفلسطينية كمفهوم عام يشتمل على الوعي والانتاج المعرفي من خلال العلاقة مع التراث والذاكرة والتاريخ والامتداد الوطني والإنساني لم تتغير، لكنها ازدادت تنوعاً في مكوناتها الإبداعية بفعل المؤثرات السياسية المتعددة والتي شكلت النكبة عام ١٩٤٨ إحدى أبرز هذه المؤثرات، وما تلا ذلك من متغيرات سياسية.
إن شعور الفلسطيني بالحاجة إلى وطن تم انتزاعه منه عنوة بالاحتلال والتهجير لم يتغير، كما هو، لكن شكل التعبير عن هذه الحاجة تنوع واتسع ليشمل الذات الفردية إلى جانب الذات الجمعية. الوجود الفلسطيني في بيئات جغرافية مختلفة ساهم في تنوع التجربة الإبداعية من جهة، وخلق مساحات إضافية لكيفية التعبير عن الحلم الفلسطيني من جهة أخرى.
لا أعتقد أن هناك تناقضات بمقدار ما هناك تعدد في أشكال التعبير الثقافي وهذا يحتاج إلى تأمل ودراسة وفهم أيضا لحجم التأثيرات الفكرية والسياسية والاجتماعية ضمن بيئات متعددة أثرت في الثقافة الفلسطينية بفعل عامل الجغرافيا والسياسة، إضافة إلى عوامل الأيديولوجيا المتعددة.
> تعلن دوماً أن الثقافة هي العنصر الأساس لمواجهة الحصار الذي تعيشه فلسطين الدولة وفلسطين الداخل المحتل ولكسر جدران العزل الفلسطيني التي تبنيها إسرائيل. كيف تحدد دور الثقافة في هذا السياق وهل استطاعت الثقافة فعلاً أن تؤدي هذا الدور؟
– المطلوب أن تؤدي الثقافة هذا الدور ليس الثقافة الفلسطيينة فحسب، ولكن الثقافة العربية أيضاً إضافة إلى الثقافة العالمية بكل مكوناتها الإنسانية.
علينا النظر إلى الجانب الثقافي كفعل نضالي دائم الحركة ودائم العمل على تطوير العلاقة مع الامتداد العربي والانساني. هنا يمكن القول إن مواجهة الحصار تعتمد على قدرتنا في حصار الحصار كما قال شاعرنا الكبير الراحل محمود درويش «حاصر حصارك لا مفر…».
إن محاصرة الحصار تمثل رؤية في الانعتاق من الاستسلام لسياسة العزل والحصار، رؤية تنطلق من الانتباه للإنساني واليومي الوطني من أجل خلق خطاب أكثر فاعلية من الإنشاء المتعالي. خطاب يعتمد على جعل فلسطين بؤرة حدث ثقافي ونموذجاً للإرادة والفعل لا أيقونة صامتة للتغني والانشاد. فلسطين بحاجة إلى استمرار الفعل الثقافي فلسطينيا وعربيا في الأساس بكل جوانبه المعرفية لمواجهة خطاب المستعمر، فتأثيرات العزل طويلة الأمد ولذا علينا لمواجهة سياسات العزل الإسرائيلية تنمية الفعل الثقافي على أرض فلسطين بامتداداته العربية والانسانية لصون الهوية الوطنية من جهة ولتعزيز الصمود من جهة أخرى، هذا بدوره سيخلق حراكل وتفاعلاً إعلامياً وثقافياً يواجه الرتابة عندما تصبح فلسطين بؤرة حدث مرة أخرى، من خلال قدرتها على خلق الحدث الثقافي مهما بدا متواضعاً في بعض جوانبه، ولكن المهم حجم التأثير المتنامي لهذه الحدث. لا أحد ينكر حجم الصعوبات والتحديات والعراقيل التي تواجهنا يومياً من تفعيل المشهد الثقافي الفلسطيني، ولكن على رغم هذا كله فنحن نؤمن بأن الثقافة العربية والدولية بحاجة إلى الانتباه للفعل الثقافي المستمر في الجامعات الفلسطينية والمراكز الثقافية والأندية على رغم الجدار والاستيطان وجرائم الاحتلال، وبحاجة إلى دعم هذا الفعل الثقافي من دون تعالٍ أو أعذار بسبب السياج أو خوذة الجندي المحتل. إن فلسطين التي تنهض بصوتها رغم كل المآسي معلنة عن جدراتها بالحياة بحاجة إلى تعزيز هذا الصوت بجهد عربي وعالمي هنا تتحق الرؤية تدريجيا بمحاصرة الحصار.
> اللافت في الأنشطة الثقافية الفلسطينية– العربية التي تحييها وزارة الثقافة وسائر المؤسسات أنها تجعل من فلسطين ورام الله ساحة للثقافة العربية ومنبراً للمثقفين والمبدعين العرب، وهذا فعلاً ما تحتاجه الثقافة الفلسطينية أي أن تستعيد مركزيتها، فلا تظل وقفاً على صفتها طرفاً عربياً. هل تعتقد أن رام الله قادرة فعلاً على تجسيد هذا الدور المركزي وكيف؟
– ليس رام الله فحسب ولكن المدن الفلسطينية أيضاً تستطيع تجسيد هذا الدور، بيت لحم مثلاً ستكون عاصمة الثقافة العربية عام ٢٠٢٠ هذا الحدث المقبل هو مناسبة لتعزيز حضور رسالة الثقافة الفلسطينية عربياً ودولياً. الدور ذاته يتم تجسيده أيضاً في شكل تدريجي في باقي المدن الفلسطينية.
تجربتنا في وزارة الثقافة خصوصاً العام الماضي وهذا العام تشير إلى هناك الكثير من الفرص لتحقيق هذه الرؤية خصوصا في ظل جهدنا المتواصل لبناء وتفعيل البنى التحتية الثقافية في كافة المدن والقرى الفلسطينية من خلال دعم المهرجانات والفعاليات الثقافية كجنين ونابلس والخليل وأريحا، إضافة إلى رام الله وبيت لحم وطوباس وقلقيلية وسلفيت وطولكرم والقدس، على رغم كل تحديات الاحتلال وأيضاً غزة على رغم تداعيات الانقسام.
عندما أقمنا معرض فلسطين الدولي للكتاب العام الماضي حرصت على أن يكون جزء أساسي من الندوات في المحافظات تحت عنوان معرض فلسطين الدولي للكتاب ما سمح للمثقفين العرب المشاركين في معرض الكتاب من الانتقال خارح رام الله والاقتراب الإنساني والاندماج في يوميات الحياة الفلسطينية بكل مفرداتها من جدار واستيطان وأسلاك شائكة وحواجز وكذلك الإرادة والتحدي الفلسطينيان، هذه التجارب بتراكمها تخلق على المدى المتوسط والبعيد حالة تفاعل ضرورية لمواجهة سياسات الاحتلال.
في هذا السياق، يمكن القول إن رام الله نقطة ارتكاز أساسية فهي تجسد اختصاراً لهذه الحالة، لكنها وفق رؤيتنا في وزارة الثقاقة هي جزء من الكل الفلسطيني، فرؤيتنا تعتمد على اللامركزية في الفعل الثقافي وهو ما يعني تحقيق انتشار العمل الثقافي وتعزيز حضوره في كافة المناطق الفلسطينية.
> كيف تنظر إلى حركة النشر في رام الله وإلى الحركة المسرحية والسينمائية وإلى الفن التشكيلي: هل تستطيع رام الله بصفتها عاصمة فلسطين الثقافية أن توازي سائر العواصم الثقافية العربية أم أنها ما زالت تحتاج إلى الدعم العربي لتتمكن من تحقيق ذاتها؟ بمعنى آخر كيف يمكن أن تصبح رام الله نقطة جذب عربي ومختبراً ثقافياً مفتوحاً أمام العرب؟
– استطاعت رام الله أن تحقق حضوراً ثقافياً مميزاً على خارطة الثقافة الفلسطينية والعربية، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال حجم الفاعليات الثقافية المتنوعة التي تحتضنها المدينة والتي تشكل حالة ثقافية فلسطينية وعربية. رام الله بهذا المعنى تشكل بكل تأكيد مختبرا ثقافيا للإبداع تسعى من خلاله إلى تطوير إمكاناتها وبنيتها التحتية الثقافية من أجل مواكبة النمو في الفعل الثقافي وتلبية احتياجات الثقافة، بتوفير منصات إبداعية تحقق رسالة الثقافة الفلسطينية.
المسألة ليست سهلة والطريق محفوف بالكثير من التحديات لكننا في المقابل إذ نسعى للفت الانتباه للصمود الوطني الفلسطيني والرواية الفلسطيينة للحياة واليوميات والذاكرة من خلال رام الله وغيرها من مدننا الفلسطينية، نؤكد إيماننا بأهمية الفعل الثقافي كأداة مقاومة.
بالنسبة للنشر هناك حركة نشر نشطة، تدفع إلى المزيد من الانتباه رغم الكثير من التحديات والعراقيل التي يفرضها الاحتلال حول حركة الكتب واستيرادها ةتصديرها للأسواق العربية. كذلك الأمر بالنسبة إلى السينما والمسرح اللذين على رغم كل التحديات استطاعا انتزاع حضور فني مميز لفلسطين عربياً ودولياً. هذه المعطيات بتقديري توفر القاعدة الأساسية لحاجتنا إلى شراكة عربية تعتمد على شراكة الرؤية في أن الصمود على أرض فلسطين مقاومة وبأن دعم الصمود الفلسطيني ضرورة وطنية وعربية، ننطلق من خلال ذلك إلى نقاش آليات تحقيق هذه الرؤية وطبيعة الدعم.
رام الله هنا تحقق معادلة الطموح الثقافي الفلسطيني في شكل فعلي ورمزي فهي من جهة تسعى لأن تكون مختبراً حقيقياً للإبداع، ومن جهة أخرى عنواناً ثقافياً قادراً على تحقيق الكثير من الإنجازات الثقافية.
> كيف يمكن الصمود في جوار الثقافة الإسرائلية التي على رغم الصراعات الداخلية التي تحياها، تسعى إلى إلغاء كل ما يتعلق بفلسطين ثقافياً، وإلى محو الذاكرة الفلسطينية التاريخية والأمثلة معروفة في هذا القبيل؟ كيف يمكن التواصل في جوار هذه الثقافة العدوة التي تعمل حتى على إلغاء أسماء القرى والمدن في الداخل المحتل؟
– علينا أولاً أن ندرك قوة الثقافة في السياسة وعملياً كيف يمكن للثقافة أن تصبح عاملاً سياسياً مؤثراً في ظل التحديات الراهنة. هذا يتطلب فعلاً ديناميكيةً مستمرة وعلى أكثر من مستوى فلسطيني وعربي ودولي. وقبل ذلك يتطلب الأمر عملاً وحدوياً يحتوي التعدد والاختلاف من أجل تعزيز كافة الجهود الفعالة من دون إقصاء أو تمييز، فالتعدد إثراء للتجربة وتدعيم لقوة الثقافة المؤثرة، هذا الأمر يتعارض مع فلسفات الإقصاء المتعددة والتي تسعى إلى التفتيت أكثر من سعيها إلى التوحيد بالبحث عن المشتركات والانطلاق من المشتركات لبناء حالة ثقافية أقوى وأكثر تأثيراً.
لن يصنع الإقصاء الثقافي ولا السياسي بتقديري مستقبلاً بل هو يعيد إنتاج آليات القمع والاضطهاد بأساليب جديدة، وهكذا نصبح كأسرى لسياساتنا الإقصائية لذاتنا. علينا أن ندرك قوة الثقافة كتاريخ وذاكرة وإبداع ورؤية في السياسة وفي العلاقات الدولية، هنا نستطيع تعزيز حضورنا الثقافي وحمايته وصونه من العزلة. بهذا نتقدم خطوات نحو الغد وبهذا نعزز من صمودنا اليومي.
من الصعب اقتلاع الثقافة العربية من الأرض فهي القصيدة والنشيد والحكاية والمسرحية والموسيقى واليوميات التي لا يمكن أن تذوب على رغم كل محاولات الاحتلال الإسرائيلي في ذلك، لذا ورغم كل الصعوبات نسعى دوماً لدعم الإبداع الفلسطيني، ونواجه التحديات بإصرار على العمل، نستمده من إصرار المبدعين والمبدعات على الإنتاج.
سنبقى على أرضنا صامدين نبني المدرسة والمستشفى والجامعة والمصنع على رغم كل التحديات ونكبر جيلاً بعد جيل نحافظ على مفردات اللغة والهوية من الذوبان والإلغاء، وسندق كل الأجراس وسنطرق كل الأبواب كي لا نموت بصمت، فيما أبو الخيزران الجديد يستعد لقصيدة رثاء أو خطاب إنشائي عن معنى الوطن. انحيازنا للفعل الثقافي يمدنا بالأمل لهذا لن نيأس، فاليأس ليس خياراً نهرب إليه بالشعارات والخطابية. شعارنا الصمود والعمل وبهذا نعزز من حضورنا أمام العالم بكل صدقية. فحين نقول الثقافة مقاومة فنحن نؤكد على حقنا في الحياة وحقنا في الغد كحقنا في التاريخ والذاكرة.
> بدا من الملاحظ أن السلطة الفلسطينية تسعى إلى تكريم مثقفين عرب ومنحهم أوسمة ودروع فلسطينية تحية لهم على اعتناقهم القضية والنضال من أجلها. وأخيراً كرمتم عدداً من المثقفين اللبنانيين وقمتم بجولة على أهل الثقافة والسياسة في لبنان… وعلى رغم كل هذا الانفتاح ما زلنا كلبنانيين وكمثقفين ممنوعين رسمياً من زيارة فلسطين ورام الله وسواها من المدن. وهذه الزيارة تعدها الدولة اللبنانية تطبيعاً مع إسرائيل وكأن زيارة فلسطين هي زيارة للعدو. كيف تنظر إلى موقف الدولة اللبنانية السلبي من زيارة فلسطين وكأنها لا تعترف بالسلطة الفلسطينية؟ هل بحثتم في هذا الأمر مع لبنان؟
– إن تكريم المثقفين العرب هو جزء من رسالة الوفاء والتقدير لمن شكلوا امتداداً وطنياً لفلسطين، وهو بتقديري واجب اتجاه من وظفوا إبداعهم لخدمة القضية الفلسطينية على مر العقود الماضية، وما زالوا يشكلون رافعة للعمل الثقافي الفلسطيني. وهذا ما يدفعنا للقول بأن دعم القضية الفلسطينية من وجهة نظرنا بحاجة إلى تطوير لسياسات العدم العربية بما يسمح بتعدد أشكال الدعم وفق رؤية مشتركة وعمل تتكامل فيه الجهود العربية مع الجهود الفلسطينية من أجل تعزيز حضور فلسطين السياسي والثقافي على خارطة العمل العربي والدولي. لا يعني هذا أنه عندما نتحدث عن جزئية زيارة فلسطين كجزء من هذا العدم العربي فإن المطلوب هو أن تكون نزهة سياحية بمعزل عن الواقع السياسي والحياة اليومية، بل على العكس تماماً، فالمطلوب هو العمل على توظيف زيارة فلسطين كجزء من سياسات دعم أشمل من خلال برامج عمل مشتركة تشكل إضافة نوعية للصمود الفلسطيني في كافة المجالات.
لا أحد ينكر الصعوبات والتحديات المتمثلة بوجود الاحتلال، ولكن إنهاء الاحتلال يتطلب جهداً متراكماً ومتكاملاً ونظرة أكثر قرباً من اليومي الفلسطيني منها إلى الشعار من بعد. الدعم من وجهة نظري يتطلب تدريجياً خلق حالة مضادة لحالة الاحتلال تتمثل بتعميق التواصل بين فلسطين وعمقها العربي والإنساني، بما يشكل حالة ضغط متصاعدة تشكل رافعة للرواية الفلسطينية والصمود الفلسطيني.
لذا فالمسألة بتقديري بحاجة إلى رؤية أعمق تستدعي النظر إلى فلسطين كمجتمع حي بنشاطه اليومي الذي يقاوم الرتابة والاستسلام لسياسات العزل الإسرائيلية من خلال عمل مؤسساته وجمعياته ومستشفياته ومدارسه وأنديته ومراكزه الثقافية والاجتماعية، هذه الحالة النشطة على رغم كل التحديات، عندما نتحدث عن ضرورة دعمها من أجل دعم استمراريتها، فإننا نسعى إلى إيجاد آليات عمل وبرامج وخطط تأخذ في الاعتبار الحاجة الفلسطينية لخلق المزيد من التفاعل العربي والدولي الذي يحقق بالتكامل والتراكم إنجازات نوعية تحول دون نجاح الاحتلال في تمرير سياساته العنصرية.
ندرك أن المسألة ليست سهلة وتطلب جهداً كبيراً خصوصاً مع إدراكنا أن الاحتلال في المقابل يعمل على وضع مختلف أشكال العراقيل للحيلولة دون نجاح هذه الرؤية.
عندما نطلب من أشقائنا العرب زيارتنا في فلسطين «السجن الكبير»، فإن مطالبنا هي امتداد لمطالب أسرانا البواسل في «السجن الأصغر» برؤية عائلاتهم، وهو ما كان على رأس مطالبهم في إضرابهم الملحمي الأخير، من زيادة عدد الزيارات ومدة الزيارة، إضافة إلى مطالب إنسانية أخرى، وكما يرى الأسرى أن زيارة عائلاتهم الصغيرة هو جزء من دعم صمودهم فإننا نرى زيارة عائلتنا الكبيرة العربية هو جزء من دعم صمودنا الوطني.
لم يقل الأسرى إن زيارة أشقائهم وعائلاتهم لهم تطبيع مع السجان، فهم يعلمون أهمية ما تحققه الزيارة من دعم وإسناد لهم على رغم سياسات الاحتلال، ونحن ندرك أهمية ذلك مع إدراكنا أن السجان يملك مفاتيح بوابات السجن الأصغر والأكبر، ولكن مع إدراكنا لذلك فنحن لا نتخذ منه ذريعة أو عذراً لعدم العمل وتحقيق هدف السجان بفرض العزلة كأمر واقع بل على العكس نقاوم بالإرادة والعمل كي نتحرر من السجن والسجان.
في المقابل، وعلى رغم وضوح هذه المسألة بالنسبة إلينا، فإننا نتفهم أن يكون هناك تباين في التفاعل معها من الأشقاء العرب، هذا ما يستدعي المزيد من البحث والنقاش الأكثر عمقاً من التعميم أو تجريد المسألة من أبعادها وتفاصيلها الانسانية واليومية والاكتفاء بتصدير موقف مسبق، لذا نسعى من جهتنا وعلى رغم مختلف الصعوبات لخلق حالة تكاملية في العمل مع أشقائنا العرب وأصدقائنا حول العالم من دون الحاجة إلى خلق مساحات للتناقض، فالمهم بالنسبة إلينا نا هو إيجاد أكثر الصيغ ملائمة لدعم صمود شعبنا على أرضنا، لتحقيق مطالبنا الوطنية بالحرية وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس.

نعمل على إحياء الذاكرة الشعبية من خلال الأعمال الإبداعية

بدأتم الاستعداد للاحتفال بالقدس عاصمة للثقافة الإسلامية للعام 2019. كيف تتصورون البرنامج الذي يليق بالاحتفال بهذه المدينة العظيمة؟ وما هي التحديات التي ستواجهونها مع إسرائيل؟
– إعلان القدس عاصمة للثقافة الإسلامية للعام 2019 يليها إعلان بيت لحم عاصمة للثقافة العربية للعام 2020 يمثل بالنسبة لنا محطات أساسية على صعيد تعزيز حضور الثقافة الفلسطينية وتمتين علاقتها مع عمقها العربي والانساني. إن رسالة فلسطين من خلال القدس وبيت لحم بكل أبعادها الثقافية والروحية تمثل بيان التحدي والإرادة الفلسطينية، في ظل كل مر تمر به المنطقة من أحداث واضطرابات. وعلى رغم أهمية الإعلان إلا أن الهدف بالنسبة إلينا يتجاوز الإعلان فنحن نتطلع من خلال التخطيط والمتابعة إلى ما يمكن البناء عليه بعد الحدث ذاته عام 2019 وعام 2020، من شراكات فعالة تشكل رافعة للرواية الفلسطينية، هذا يعيدنا مرة أخرى إلى أهمية مد الجسور الثقافية لمواجهة سياسات الاحتلال التي تهدف إلى عزل فلسطين وعزل القدس عن عمقها العربي والإنساني. من المهم هنا التذكير بأن عام 2019 سيصادف الذكرى الخمسين لمحاولة حرق المسجد الأقصى في آب (أغسطس) 1969 لذا فإن إعلان القدس عاصمة للثقافة الإسلامية للعام 2019 يحمل رسالة وطنية فلسطينية بأنه على رغم كل المحاولات لأسرلة القدس وتهويدها، إلا أننا نعمل من أجل تثبيت عروبة العاصمة المحتلة ومركزيتها في الثقافة الإسلامية والعربية من خلال مختلف الفاعليات الثقافية التي نعمل على أن تشمل قدراً واسعاً من التنوع والتعدد الذي يؤكد على أهميتها ثقافياً وعربياً، وهذا ما فعلناه أخيراً في ملتقى فلسطين الأول للرواية العربية، دورة القدس… نبيل خوري الذي أردنا من خلاله أن نواجه ذكرى مرور خمسين عاماً على حرب 1967 واحتلال القدس الشرقية بحدث ثقافي عربي نؤكد من خلاله على بقائنا وصمودنا على أرضنا بل وجدارتنا أيضاً في الحياة. فقمنا بالتزامن مع إطلاق الملتقى بإعادة طباعة «ثلاثية فلسطين» الروائية، والتي سبق أن صدرت عام 1974 عن دار الشروق المصرية للراوئي المقدسي الفلسطيني الراحل نبيل خوري، تلك الثلاثية التي تضمنت رواية «حارة النصارى» التي سجل من خلالها نبيل خوري احتلال القدس الشرقية عام 1967. إن هدفنا هو إحياء الذاكرة الفلسطينية من خلال أعمال المبدعين والمبدعات من أجل الحفاظ على كيونتنا الوطنية على رغم كل التحديات.
ولهذا نرى أن إنجاح برنامج عمل القدس عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 2019 عربياً وإسلامياً ضرورة ثقافية ووطنية لتعزيز حضور القدس في الخطاب الثقافي العربي ودعم الثقافة الفلسطينية.
> أعود اليك كشاعر فلسطيني متفرد وكصاحب تجربة مميزة فلسطينياً وعربياً: أين أنت اليوم كشاعر؟ أي جديد؟ أين أصبحت داخل مسارك الخاص؟
– ما زلت حريصاً على الاهتمام والعمل على تطوير مساري الشعري على رغم تحديات العمل الرسمي، كحرصي على المتابعة والمطالعة فمن دون ذلك أشعر وكأنني أخسر الكثير من ملامحي الثقافية.
قد يبدو التوازن صعباً أحياناً، ولكنني لا أخفيك أنني أكثر انحيازاً للشاعر فيَّ من الوزير، بمعنى أنني أرى في الشاعر على دفع الوزير في كثير من الأحيان إلى التمسك بالرؤية الثقافية والانتباه إلى التفاصيل كما يدفعه إلى المواظبة على القراءة ومتابعة الفاعليات الثقافية والكتابة أيضاً.
قد يبدو الأمر ظاهرياً وكأنه حالة صراع ذاتي، غير أنني أجده عكس ذلك تماماً، إذ يمثل بالنسبة إلي دافعاً إضافياً للتمسك بهوية الشاعر، ربما لهذا أجدني دوماً حريصاً على تطوير مساري الشعري بالمزيد من الإطلاع والكتابة حيث قد بدأت العمل على تجهيز مجموعتي الشعرية الجديدة، على رغم كل الانشغالات الرسمية، وهو ما يحقق بالنسبة إلي معادلة التوازن بين التأمل والكتابة والعمل.
> سؤال أخير: كيف استقبل الشعراء الفلسطينيون لحظة الربيع العربي التي اندلعت في مدن عدة وقلبت معادلات كثيرة؟ كيف عاش الشعراء الفلسطينيون الحالمون أبدا بالربيع هذه التجربة الفريدة؟
– لقد شكلت حالة مُلهمة إبداعياً بلا شك، ليس على صعيد الشعر فحسب، ولكن في مختلف مجالات الإبداع، هذا بدوره شكل مساحة مهمة لتأمل نتاج المرحلة ثقافياً، فهناك الكثير من النصوص والأعمال الإبداعية الفلسطيينة كما العرببة التي تناولت هذه التجربة وتنوعت في معالجتها إبداعياً.
ولكن على رغم التعدد في الرؤية والمعالجة، إلا أن الانحياز للإنسان من خلال الإبداع يبقى هو المعيار الفكري الأساس من وجهة نظري، خصوصاً في ظل طغيان عوامل السياسة بكل أبعادها الإقليمية والدولية. نحن أمام حدث تتطور مفرداته السياسية كل يوم بل وتتسارع إلى مسارات متعددة، لكن يبقى الانحياز للإنسان وحقوقه أولاً وأخيراً هو المعيار الأساسي للأعمال الإبداعية المختلفة.
بالنسبة إلينا في فلسطين، شكلت الانتفاضة الشعبية الفلسطينية عام 1987 ربيعاً فلسطينياً بامتياز انطلق من خلاله الإبداع الفلسطيني والعربي أيضاً ليشكل ملحمة ثقافية مهمة، لذا تجد هذه الذاكرة الوطنية ما زالت حاضرة فلسطينياً كمحرك إبداعي في تفاعله الثقافي مع الأحداث الشعبية العربية. ما يمكن قوله هنا إن علينا البقاء أوفياء لحق الإنسان في الحياة والحرية. ننطلق في هذا من تجربتنا كفلسطينيين ومعاناتنا وآلامنا اليومية في مواجهة سياسات الاحتلال.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى