هل أحبَّ جبران مي زيادة؟

مولود بن زادي

ليس من ينكر أنّ أدب المراسلة تعبير عن مكنون الذات، وبوح بما يختلج في النفس من مشاعر وهواجس ونزعات وما أشبه ذلك. فقد صدق الأديب عبد اللطيف الوراري عندما قال: «لعل أدب الرسائل أو فنّ الترسل من بين هذه الآداب التي لا تخلو من سرد الاعترافات وكشف الأمور الشخصية بين المرسلين… فكان من الرسائل ما جاء في الشوق، أو الاستعطاف والاعتذار، أو النصح والمشورة، أو الملامة والعتاب، أو الشكوى، أو العيادة، أو التهاني، أو التعازي والتأبين، إلخ.» («القدس العربي» 12 أيلول/سبتمبر 2016).
وما كتبه جبران المقيم في أمريكا إلى مواطنته مي زيادة في المشرق العربي يُعدّ من الرسائل الشخصية التي لا تخلو من ذلك. وبما أنَّ المرسلين أديبان، فقد كانت مزيجا من الرسائل الأدبية والذاتية. لكن، في مثل هذا السرد، وإن كان للذاتية وزن، فإنّه لا يمكننا بأي حال من الأحوال الاستهانة بدور العقل. فإن كانت الرسائل تعبّر عن الأحاسيس والآلام والأشجان وغيرها، فإنها تظلّ خاضعةً لسلطة الإرادة ورقابة الذهن. فالعقل هو المحرّك، وهو الناقد، وهو الوازع، والحاكم المحاسب، الذي يملك وحده دون سواه سلطةَ القرارِ في ما يجوز البوح به وإرساله وتقاسمه مع الغير. فالمُرسِل يخطّ كتابَه بعقل مفكِّر. فهو واعٍ بما يعبّر عنه، وليس تحت تأثير مسكّر أو تنويم مغناطيسي أو أيّ مؤثِّر من شأنه أن يشلّ تفكيره أو يهدّ إرادته. فعادة ما نراه ينقد كتابه وينقّحه، وقد يمزّقه ويعيد كتابته. ونراه يصوغ تعبيره وفقاً لمستوى المرسَل إليه وثقافته. فقد صدق إبراهيم بن محمد الشيباني عندما قال: «إذا احتجت إلى مخاطبة أعيان الناس أو أوساطهم أو سوقتهم، فخاطب كلاً على قدر أبهته وجلالته وعلو مكانته وانتباهه وفطنته. ولكل طبقة من هذه الطبقات معان ومذاهب يجب عليك أن ترعاها في مراسلتك».
وجبران كان يرعى مكانة سيدة الأدب في الشرق الأوسط مي زيادة، وهو ما تجلّى في رسائله التي تميّزت بانتقاء الألفاظ، وجمال التعبير، والافتنان في التصوير، والتأنق في الخيال: «تعال نخيم على الجبال وفي الأودية، تعال نسير بين الأشجار وفوقها، تعال نغمر الصخور المتعالية…» (رسالة 3 تشرين الثاني/نوفمبر 1920). هذه المراسلة من على بعد 7 آلاف ميل، أثارت إعجاب الجماهير، وأسالت من الحبر الكثير. وُصفت بـ«الحب الصوفي السامي» (جريدة «العربية»)، و«الحب الطاهر» (صحيفة «الشروق»)، و«20 عامًا من العاطفة الورقية.» (جريدة «الوفد»). وقيل إنَّها حبّ فريد لا مثيل له في تاريخ الأدب وسير العشاق. لكن، يبدو أنّ بعض هؤلاء اكتفى بمشاهدة العلاقة من منظور ضيق، تمثّل أساساً في جملة من رسائل جبران إلى مي زيادة، ولم يحاول القراءة بين الأسطر، أو النظر أبعد من هذه الكلمات، سعياً لفهم طريقة تفكير جبران ونمط حياته، لتقييم هذه العلاقة تقييماً صحيحاً، والحكم عليها حكماً عادلاً.
ما يلفت انتباهنا ونحن نحاول الاطلاع على سيرة جبران، هو أنّ رسائله لم تقتصر على هذه المرأة مطلقاً. فها هو كتاب «الحبيب» (2004) يحصي 325 رسالة منه إلى ماري هاسكل وحدها بين 1908 و1931! وما يثير الانتباه أيضاً تورطه في علاقات غرامية متعدّدة أثناء علاقته بمي زيادة، وهو ما يشكك في صدق حبه وإخلاصه لها. وهو ما تؤكده الرسائل والشهادات.
قال عنه رفيقه في المهجر ميخائيل نعيمة: «كانت له علاقات نسائية متعددة». وكشفت صحيفة «العروبة» السورية في عددها 12057 أنّ خريستو نجم ذكرَ في كتابه «المرأة في حياة جبران»: «أشهر النساء اللواتي ارتبطن بحياة جبران القصيرة مثل المرأة الثلاثينية، التي لم يكشف عن اسمها، وجوزفين بيبودي، وحلا الضاهر، وسلطانة ثابت، وماري هاسكل، وأميلي ميشال المعروفة بمشلين، وشاعرة أمريكية مجهولة الاسم، وماري قهوجي، وماري عيسى خوري ومي زيادة، وشارلوت تيلور، ومادلين مايسون، وبربارة يونغ، وعيتريد باري، التي كشف النقاب عن اسمها خليل جبران ابن عم جبران‏».
وصوّرت صحيفة «الحياة» في عدد 6 نيسان/أبريل 1992 علاقته بإحداهن: «في شقتها رقم 552، كانا يلتقيان ويتبادلان الحب. وحتى بعد انتقاله إلى نيويورك بقي على اتصال بها، فيكتب إليها عام 1914: «أيتها اللذيذة جيرترود، قولي إنك لا تزالين تبتسمين وتضحكين تلك الضحكة المثيرة الراعشة، التي كانت تشعلني في تلك المرحلة السحيقة حين كنت صديقة للقمر».
حريّ بالذكر أيضاً أنّ جبران لم يصارح مي زيادة بحبه، أثناء علاقتهما الطويلة، وهو أمر غير عادي ويشكّك في جديّة علاقته. وها هو يعبّر عن حبه الشديد لامرأة أخرى، فقد بعث برسالة مثيرة لهاسكل عام 1926 قائلاً: «سأحبك حتى الأبدية. فقد كنت أحبك قبل أن نلتقي كبشريَيْن من لحم ودم بزمن طويل. عرفت ذلك حين رأيتك للمرة الأولى. كان ذلك هو القَدَر. أنتِ وأنا قريبان؛ ففي الجوهر نحن متشابهان. أريدك أن تتذكري هذا دائمًا. أنت أعزُّ شخص على قلبي في هذا العالم». لا نرى مطلقا مثل هذا البوح وهذه الحرارة في رسائله إلى مي زيادة. وأغرب من ذلك أنه قبل هذه الرسالة بأشهر قليلة وبالضبط في 12 كانون الثاني/يناير 1925، بعث برسالة إلى مي زيادة تُوهم أيَّ عشيقةٍ أنّه متعلّق بها: «يا ماري، كنت في السادس من هذا الشهر، أفكر فيك كل دقيقة، بل كل لحظة». ولم تحظ مي زيادة أبداً بتلك المنزلة التي خصّ بها حبيبته ماري هاسكل، التي ذهب إلى حد اختيارها وريثة له بعد موته: «إذا متُّ، فإني لا أريد أي شخص آخر أن يلمس لوحاتي، أو أن يقول شيئا عنها، سواك أنت. أريدها كلها أن تكون بين يديك». إضافة إلى الرسائل والشهادات التي كشفت تعدد علاقاته النسائية، فإنّ عدم اجتهاده للتقرب إلى مي ولقائها خلال ما يناهز 20 سنة، يشكك في جديته وصدق مشاعره نحوها، وإلا كيف نفسّر امتناعه عن دعوتها إلى الولايات المتحدة أو زيارتها في المشرق، أو ربما اقتراح لقائها في أوروبا، لا سيما فرنسا التي كان يسافر إليها؟
نضيف إلى ذلك أيضا أنّ علاقته بمي زيادة وإن كانت طويلة فقد تخللتها فترات من الانقطاع، لم نرَ فيها بكاءً ولا تألماً لفراق الحبيب، وهو ما يشكك أيضا في مصداقية العلاقة.
لا شكّ أنّ جبران كان يبحث عن علاقة خيالية مع أديبة عربية تحيا في الشرق، تثير إلهامه وتغذي إبداعه. فصنع بوجدانه عالما فانتازيا يلتقي فيه مي زيادة خلف عالمٍ محسوس حجبه عنها، وكان يحيا لحظاته مستمتعا بالخمر والنساء، أبعد ما يكون عن صورة النبي المقدس المتنزِّه عن ملذات الحياة والذنوب التي عرف بها.
تُعلّمُنا تجربة جبران أيضاً أنّ الرسالة وإن كانت تُعدّ من أدب السيرة والبوح، إلاّ أنه ينبغي علينا النظر إليها بحذر. فهي شيء من الإنشاء يتصرّف فيه العقل المبدع كما يشاء، فيكشف في مضمونه ما يشاء، ويخفي ما يشاء، ويصوغه في أي قالب يشاء. وهذا ما ينطبق على رسائل جبران التي لم تكشف لمي زيادة علاقاته المتعددة ولا ذاته الخفية التي تعمّد إخفاءها، وهو القائل في كتاب «المجنون»: «ذاتي الخفية الكبرى التي أدعوها، أنا سرّ غامض مكنون في أعماق سكون نفسي ولا يدركه أحد سواي».
نستخلص من هذه التجربة أيضا نزعتنا أحيانا إلى مشاهدة الأمور بذاتية ومن زاوية واحدة ضيقة. فأسرفنا في تعظيم شأن علاقة اعتمادا على جملة من الرسائل. وانبهرنا بطول مدة هذه العلاقة، ونسينا أنها عرفت فترات من الانقطاع ولم تكلل بلقاء. وانبهرنا بالمسافة الفاصلة بينهما، ونسينا وسائل النقل المتوفرة، وأسفار جبران الكثيرة، وعلاقاته المثيرة. وإن لم يبح بحبّه إلى مي زيادة، فقد اعترف بحبه الأبدي لهاسكل. واكتفى بدعوة مي إلى لقائه في عالم ضبابي بعيدا عن الواقع الذي كان يحياه رفقة نساء حسناوات، تعمّد إخفاءه عنها. وهل كانت علاقته بمي زيادة ستستمر ما يناهز 20 سنة لو علمت بتلك العلاقات والملذات التي كان يعيشها خفية عنها؟ مع كامل الاحترام لهذا القلم المهجري المبدع المؤثر.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى