سرابية الحكم العادل في «الحكاية الأخيرة» لعبد الحفيظ مديوني

بوشعيب الساوري

قليلة هي الأعمال الروائية التي تتوفق في تحقيق توافق وانسجام بين انشغالاتها الفكرية والإشكالية، واختياراتها الفنية والجمالية، ويبدو لي أن رواية «الحكاية الأخيرة» لعبد الحفيظ مديوني واحدة من تلك الأعمال الروائية، بما تطرحه من أسئلة حول العلاقات القائمة بين الحكاية والتاريخ، أو بين التخييلي والمرجعي، في قالب روائي يصير فيه التاريخ موضوعا إشكاليا داخل السرد الروائي، الذي يقدّم نفسه كأداة مُثلى للكشف عن خبايا التاريخ، والمسكوت عنه فيه من أحداث وتطورات، وآثارها وتبعاتها في واقعنا الراهن، عبر إعادة قراءته تخييليا تكشف لنا عن مغاليقه، وفي الآن ذاته يظهر التاريخ في رواية «الحكاية الأخيرة» كإوالية سردية وفنية، من إواليات بنائها وتأثيثها بما يمكن الرواية من تحقيق تميزها المتمثل في قدرتها على التأثير والمتعة والإقناع.
تنشغل رواية «الحكاية الأخيرة» بإشكالية الحكم العادل في تاريخ عالمنا العربي الإسلامي وانفلاته وسرابيته، تصاديا مع ما يشهده العالم العربي من تعثر للديمقراطية، رغم ما حمله ما سمي بالربيع العربي من آمال، ظلت مجرد شعارات لا تستطيع مواجهة الاستبداد والطغيان، وتبيّن الرواية كيف يعجز الحكم العادل عن الصمود والاستمرار في وجه الاستبداد، الذي يبدو كقدر لا يُقهر عابر للأزمنة. وتحاول الرواية الكشف عن أسباب انفلاته وسرابيته، انطلاقاً من مجريات تاريخنا العربي الإسلامي. كما أن عبد الحفيظ مديوني، وضع سارده الكاتب في وضع إشكالي ملتبس، بين اعتقاده أن ما يكتبه من سرد هو مجرد خيال محض، وتأكيد «راويه» ذلك الشخص الغريب، الذي اقتحم عليه خلوة طقوس كتابته، وصار شريكا مفروضا عليه في كتابة روايته عن بلدة تسمى «عفراء»، ويؤكد له أن ما يحكيه الكاتب السارد من وقائع وأحداث هو تاريخ حصل بالفعل، مظهراً له أنه على معرفة بتاريخ عفراء، وكأنّا بالكاتب عبد الحفيظ مديوني يؤكد، بطريقة غير مباشرة، أن الرواية مهما أغرقت في التخييل فهي لا تنفك من التاريخي والمرجعي. ليعكس ذلك توترا وصراعا ضمنيا بين الكاتب والقارئ، أو عينة من القراء الذين يقرأون الخيال على أساس أنه واقع فعلي. وما يزيد من حدة هذا التوتر هو ذلك التحذير الذي قدمه الكاتب المؤلف: «هذه الرواية من نسج الخيال، وأي تشابه بين الواقع في أحداثها أو شخوصها أو أمكنتها فو محض صدفة». فيدخل السارد الكاتب في حيرة، ويشدد على أنه لا يكتب تاريخا، حين يخاطب راويه قائلا: «أنا لا أكتب تاريخا يا راوية»، ما يفسّر رهان الالتباس بين التخييلي والمرجعي الذي اجترحته رواية «الحكاية الأخيرة».
وعلى الرغم من ذلك التحذير فإن الرواية تبدو لنا تخييلا للتاريخ؛ إذ تُحاول كتابته بطريقة أخرى، مختزلة تاريخنا العربي الإسلامي بسماته البارزة والثابتة من الازدهار إلى الأفول، واضعة اليد على مفاتيحه وأسراره ونقطه العمياء، محاولة الوصول إلى حقيقته عبر القوة التركيبية للتخييل الروائي. يقول: «إنها اختزال لتاريخ البشرية بأمجاده ومهانته، بمعاليه ومهاويه، بملاهيه ومآسيه بمضاحكه ومباكيه، إنها تنطوي على المفاتيح الكفيلة باختراق مغاليق الكون وألغاز الحياة، وعلى الومضات الحَرية بإضاءة السبيل إلى الأبعاد المفقودة، فهي سر وجود ظلّ اختراقه عندهم من باب المحال». إذ يؤكد «راويه» للسارد الكاتب أن ما يرويه من أحداث ووقائع يتطابق مع ما يعرفه عن عفراء، فإنه يؤكد تطابق الواقع والخيال، ولتطرح الرواية ضمنيا إشكالية تداخل التخييلي بالواقعي، وتُدخل الكاتب في تجربة اندهاش من تطابق ما يرويه ويكتبه أو يفكر في كتابته، الذي يعتقد أنه خيال محض، مع ما يثبته له مساعده الغريب «راويه»، بأن ما يرويه في روايته قيد الكتابة قد حدث فعلا، وأن بلدة عفراء بلدة حقيقية، لكن السارد يظل مشككا في أقوال «راويه» ولا يتأكد (السارد) من حقيقة توافق محكيه مع ما يعتبره راويه تاريخا، إلا في آخر الرواية، حين يقول معترفا بتوهمه: «تذكرت كيف أشار راويه في عدة مناسبات إلى أن عفراء لم يكتب لها أن تعيش طويلا، وأنها بادت بسرعة عقودا بعد نشأتها، فتأكد لي أن كل ما كان يخبرني به لم يكن هراء، كما مرارا توهمت». لتظل عفراء التي عرفت الحكم العادل (أي ما يعادل الحكم الديمقراطي، كما يتجسد في كثير من بلدان المعمورة في القرن العشرين، وفي مطلع الألفية الثالثة والغائب في عالمنا العربي) مجرد حلم هارب، وهو ما يفسر التوتر الحاصل بين السارد وراويه، يعني أن عفراء كانت مجرد حلم سرابي، لم يكتب له الاستمرار في الوجود، وهو ما يبرر رفض «راويه» حضور النهاية، وكأنه يرفض انتهاء هذا الحلم، فليس ذلك سوى تعبير منه عن تمسّكه بالحلم ورفضه أن ينتهي. يقول السارد: «وها أنذا أفهم لماذا عزّ عليه أن يحضر نهاية رواية ما هي إلا إعلان عن نهاية عفراء، وإسدال للستار على تاريخها […] تأسّفت كثيرا لانحدار روايتي إلى هذه النهاية الصعبة، التي جاءت لوضع حد لحلم كنت أتمنى لو عمّر وصار لغير ما صارت إليه بقية أحلامنا من نهايات مفجعة..». كما تجسّد الرواية مقولة كل شيء جميل مصيره الانتهاء والانطفاء.
وانسجاما مع التوتّر الحاصل بين الواقعي والتخييلي، كإشكالية مؤسسة للتخييل الروائي في رواية «الحكاية الأخيرة»، استعارت الرواية أسلوبا سرديا تراثيا يجسر بين الواقعي والتخييلي، ويسهل الانتقال من الأول إلى الثاني، يذكرنا بـ»رسالة التوابع والزوابع» لابن شهيد الأندلسي التي يتدخل فيها الجني بعد تمنّع الكتابة على ابن شهيد، ويفتح له عوالم يتمكن فيها من إثبات ذاته، وهو ما حصل مع الكاتب السارد وراويه الذي يبدو كالجني في «التوابع والزوابع»، عارفا بهواجس الكتابة، بل كان على دراية تامة بموضوع كتابته، بل إن ما كان يكتبه السارد الكاتب كان «راويه» ملما بتفاصيله، بل كان يعتبره تاريخا لبلدته عفراء، نظرا لكونه يقدم نفسه إخباريا ملمّا بالتاريخ، وهو ما سمح للرواية بالانفتاح على السرد التاريخي على مستوى صوغها السردي. يقول: «كانت في منطقة الشمال إمارة تدعى ميسان تتصل حدودها الممتدة في جزء كبير منها بالبحر». كما يحضر التاريخ كمعرفة بحضور الفعل الحجاجي المميز للتاريخ كعلم، في تفسير الكثير من الأحداث والوقائع المؤثرة في بنية الرواية وتطوراتها. فيحصل تعاون بين الكاتب و»راويه»، رغم الاختلاف بين مقاصدهما؛ الأول يدعي كتابة تخييل والثاني يعتبر ما يكتبه الأول تأريخا ليصير الحوار بينهما حوارا بين التخييلي والواقعي، بين ما يكتُبه الكاتب السارد وما يضيئه له «راويه»، ويتساءل السارد الكاتب في الأخير عن وجود شراكة بينهما يعني شراكة بين الواقعي والتخييلي: «هل سألحق اسمي باسمه كشريك ليزف في تأليفه؟ هل من صيغة أخرى لإنجاز المبتغى؟».
وبناء على الطابع السرابي للحكم العادل في تاريخنا العربي الإسلامي، ثم صوغ رواية «الحكاية الأخيرة» بحسّ حكائي يخلق مفاجآت في مسارات الشخصيات، وفْق منظور سردي تشويقي يُحكم بناءه السارد عبر توتره الحاد مع «راويه»، أو توتر التخييلي والواقعي، والروائي والتاريخي كمحاولة لإضاءة مغاليق التاريخ ومجاهله ويقدم نفسه كقراءة أخرى للزمن التاريخي انطلاقا من منظور يعتبر أن التاريخ ليس كفيلا بالحقيقة المطلقة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى