الفنان الفرنسي أوليفيي بارناكس في تونس

حسونه المصباحي

طفلا، شاهد أوليفيي بارناكس لوحات فان كوخ في متحف الفن الحديث بباريس حيث ولد فانبهر بها، وأحسّ أنه قد يحاول أن يلعب بالألوان ذات يوم. وقد ازداد هذا الإحساس انغراسا في نفسه بعد أن شاهد معارض فنية لكلّ من ديلاكروا وماتيس، وبيكاسو وآخرين.

إلاّ أن بول سيزان هو الذي ارتبط معه بعلاقة روحية وفنية سترافقه طوال مسيرته التي بدأت في الستينات من القرن الماضي. وفي نهاية ذلك العقد المضطرب بالثورات الأيديولوجية، لمع اسم أوليفيي بارناكس في عالم الفنون التشكيلية في العاصمة الفرنسية، وشرع النقاد في الإشادة بأعماله في كبريات الصحف الفرنسية.

مع ذلك أحس هو أن باريس لم تعد مدينته. فقد رحل عنها الكبار واكتسحها تجار الفن من ذوي العقلية الأميركية، وبدأ بعض النقاد يتحدثون عن”موت الفن”. لذا قرر أوليفيي أن يترك باريس ليستقر في مرسيليا “القريبة من الشرق” بحسب

عبيره ليبدأ مرحلة جديدة في مسيرته الفنية، محاولا أن يقتفي آثار معلمه الكبير بول سيزان الذي صاغ عالمه الفني من أضواء الجنوب المبهرة ومن طبيعته العارية. وكان يقول “الفن التشكيلي هو فنّ ترتيب التأثيرات وإقامة علاقات بين ألوان ودوائر وتصميمات”.
أعمال صعبة

كانت البداية صعبة في مرسيليا حيث كان على أوليفيي بارناكس أن يمتهن أعمالا شاقة لضمان عيش عائلته. لكن شيئا فشيئا بدأت أبواب الأمل تنفتح أمامه.

ففي أحد مسارح المدينة المتوسطية تعرّف على فنانين فارين مثله من “جحيم باريس” بحسب تعبير بودلير، باحثين في الجنوب عمّا يقيهم شرّ مجتمع استهلاكي يبيع كل شيء ويشتري كل شيء.

وكان الشاعر والموسيقي ليو فارّي واحدا من أبرز وجوه هذه المجموعة. ومنذ اللقاء الأول شعر أوليفيي أنه قريب من هذا المتمرد الكبير الذي يكتب ويغني قصائد تثير غضب أصحاب النفوذ في عالم السلطة والمال.

كما تعرّف على الصحافي التونسي المعروف بادي بن ناصر،صديق الفنانين والذي كان يتردد على مرسيليا بين وقت وآخر لزيارة أصدقائه “المتمردين”.
الأضواء الباهرة

بسعي منه جاء أوليفيي بارناكس إلى تونس مدعوا من مهرجان الفنون بمدينة المحرس، قرب صفاقس، عاصمة الجنوب. ومنذ اليوم الأول أبهرته أضواء هذه المدينة البحرية تماما مثلما أبهرت أضواء القيروان بول كلي فصاح منتشيا “أنا فنان! أنا فنان!”.

وفي الليل كما في النهار كان أهالي مدينة المحرس يشاهدون هذا الفرنسي قصير القامة وأشقر الشعر يطوف وحيدا باحثا في الألوان، وفي الوجوه عما يلهمه.

وذات ليلة، شاهد مراكب صغيرة على الشاطئ فتذكر فورا قوارب الموت وأفواج المهاجرين الفارين من بلدانهم الفقيرة، أو من أنظمة استبدادية بحثا عن”الجنة الموعودة” في القارة الغنية العجوز. لذا رسم العديد من اللوحات لتجسيد تراجيديا الهجرات السرية التي أضحت من أفظع تارجيديات بداية الألفية الجديدة.

يقول بادي بن ناصر بأن الإدراك الحسي لدى أوليفيي بارناكس كان “نقديّا وشاعريّا” في جميع اللوحات التي رسمها في المحرس.

وفي البعض من هذه اللوحات نحن نشعر كما لو أنه جالس في شرفة بيت، ويرى نفسه مارا في الشارع تلفحه رياح” الخمّاسين” الحارقة. وأما هو فيقول إن ما لفت نظره في المحرس هي الأشياء الصغيرة مثل الجرة، وأدوات صيادي الأسماك. ومن وحي تلك الأشياء الصغيرة أبدع أيضا لوحات رائعة ما كان ليبدعها لولا زياراته المتكررة للجنوب التونسي. وهو يضيف قائلا “أنا أعرف اللوحات التي رسمها بول كلي وأغست ماكة من وحي زيارتهما الشهيرة إلى تونس في ربيع عام 1914.

لكن عندما جئت إلى المحرس وإلى الحمامات أحسست أني أدركت معانيهما أكثر من ذي قبل، وازددت اقتناعا بما قاله سيزان بأن الفن يجعل الأشياء مرئية أكثر مما كنا نتصور”.
المنفرد بنفسه

منذ سنوات، وتحديدا منذ أن أحس بزحف الشيخوخة ومتاعبها، انشغل أوليفيي بارناكس بإبداع لوحات من وحي كتاب جان جاك روسو “هواجس المنفرد بنفسه”.

وعن ذلك يقول “أنت تعلم أن روسو كتب هذا الكتاب الرائع عندما شاخ وتعب، وبدأ يشعر أن الموت بات وشيكا. وقد قرأت هذا الكتاب أكثر من مرة. إلاّ أن قراءتي له وأنا أشيخ أشعرتني بهواجس روسو متوحدا بنفسه أكثر من أيّ وقت مضى. ثم إنني مثله أصبحت أميل إلى الطواف وحيدا في الهضاب العارية القريبة من مرسيليا، وهي هضاب وحشيّة تذكر بالصحراء. وأنا أفعل ذلك باستمرار حتى أنني أصبحت عارفا بها تماما مثلما أعرف بالفضاء الذي فيه أعمل. ويعجبني أن أسير في المسالك في أوقات مختلفة من النهار لأتعرّف على خفاياها وأسرارها. بل أحيانا أشعر أنني أتحاور معها، وأنها تجيب عن الأسئلة التي أطرحها عليها. ولا رفيق معي في جميع جولاتي سوى كلبي”.

ويضيف أوليفيي بارناكس قائلا “يوما بعد آخر أزداد عشقا لهذه الهضاب، وتولّها باللوحات التي أرسمها من وحي جولاتي الطويلة فيها. حتى تلك الطرقات الرملية المغبرّة والمتعرجة التي سرت فيها في تونس تختلط في ذاكرتي بالمسالك التي أسير فيها في هضاب مرسيليا. وكان سيزان يقول إن الرسم يعني أن نتأمل والريشة في يدنا. وهذا ما أنا أفعله”.
اكتشاف الذات

لكن ما هدفه من خلال اللوحات التي يرسمها من وحي هواجس جان جاك روسو؟ عن هذا السؤال يجيب أوليفيي بارناكس قائلا “في الاعتزال، وجد روسو السكينة والهدوء. لكن لبلوغ السعادة الحقيقية، هو يشعر بشيء من الارتباك والحيرة وأنه يتوجّب عليه معالجة تناقضاته الداخليّة وتحقيق وحدة ‘أناه’ والتعرف على نفسه كما هي، لكي ‘يتقبلها’، وينسجم معها. وذاك هو ثمن السلام النهائي الذي كان يبتغيه، وأبتغيه أنا أيضا”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى