قلق الفراغ ومرجعية العبور في مجموعة «الأحمر» لإشراق النهدي

محمد المهري

لا يزال النص النسوي في المحافظة الجنوبية من سلطنة عمان يتلمس طريقه في فضاء الأدب، وذلك عائد في ما أرى إلى قانون البقاء خلف السور، وعدم مزاحمة الرجال في مملكتهم، على أن الأمر بدأ بالتحول في الآونة الأخيرة، وإذا شئنا أن نؤرخ للأدب النسوي في محافظة ظفار، فقد بدأ بصورته الأدبية على يد القاصة إشراق النهدي في مجموعتها القصصية «الأحمـــر»، ليرتفع إلى مستوى الرواية على يد نعيمة المهري في روايتها الأولى «جرأة الياسمين» ولست هنا للتفصيل عن هذه الحركة الأدبية الناشئة، بقدر التمهيد لقراءة عنونتها بقلق الفراغ ومرجعية العبور لمجموعة «الأحمر» للقاصة إشراق النهدي.
يشير علم النفس اللوني إلى تأثير اللون على مشاعر وسلوك البشر، وأثبتت الدراسات أن اللون الأحمر من بين الألوان الأربعة (الأحمر- الأزرق- الأصفر- الأخضر) الذي يعبر عن الجرأة والقوة والحب، وهو اللون ذاته الذي اختارته إشراق النهدي عنوانا لمجموعتها القصصية بعنوان «الأحمر» التي خرجت في مئة صفحة على امتداد اثني عشر نصا نشرتها دار الغشام.
تكاد النصوص في معظمها تحوم حول ثيمة واحدة وهي ثيمة العبور، خاصة في النصوص الآتية (نظرات، فطومة، تمرد، البؤرة، فرار، تساقط، الأحمر، الشاهد) بينما تنقسم النصوص الأخرى بين الواقع والأسطورة، وإذا كانت دلالة اللون الأحمر هي «الجرأة» فقد تتحقق في هذه الثيمة – أي العبور- للعبور من – إلى، أو ما قبل وما بعد، وهو تغيير الواقع الراهن. والعبور كما يقول صاحب مقاييس اللغة من عبر: العين والباء والراء أصلٌ صحيح واحدٌ يدلُّ على النفوذ والمضيِّ في الشيء. يقال: عَبَرت النّهرَ عُبُوراً. وإذا اعتبرنا الإنسان في حالاته المختلفة هو الهدف الأساسي الذي يسعى له هذا الفن القصصي متمثلا في مجموعة «الأحمر»؛ فإنه سيتطرق إلى تصوير القلق الذي ينتاب الفرد في حالة التحول من السكون إلى الحركة، ومن الفراغ إلى العمل، ففي القصة الأولى «نظرات مختلفة» يتضح رمز العبور حين تبدأ الأعمال بخطوات إلى الملل، فيشع المكان على ساكنيه، يبعث تحليلات مبهمة، تصل إلى مدى الخوف مما يقابل ذلك الفراغ القاتل. «يا للرهبة! يغدو الفراغ مرعبا، عندما لا يبقى لك عمل سوى أن تشغله بكيانك».
تبث الوحدة روحها في أعماق ساكني المدن، يظهر ذلك في القادمين إليها من القرى، الأمر الذي يصل إلى توهم الأشياء وتفسيرها بل الولوج إلى عالمها « لم أتآلف مع بيت خالتي كما كنت أتآلف مع بيتنا المكتظ، ذاك الذي في القرية. أستأنس الزحام وضجة الأنام… أستلذ ذاك الضيق بسعة قلوبهم المنشرحة، بينما هنا كل شيء معد للملل ومهيأ للضجر».
الفراغ علة خلق لعوالم لم تكن، بل يصنع المدن التي تتشبث بالبقاء، بالصور، بالأحداث اليومية، الفراغ إذن يحول المرء من الوحدة المملة إلى تماه بالصور (الكرسي /اللوحة) وبالتي يبعث صراعا تأويليا لماهية الواقع.
في النص الثاني بعنوان «فطومة» نجد أن العبور هنا لم يكن فكريا في بادئ الأمر، بل تحولات في البدن، إذ الزمن الراحل أو المسافر لم يعالج المتغيرات التي تحدث خلال النظرات العابرة في الطرقات «لاحظت أن أصحاب السيارات بدأوا في التطلع إلى حيث تقعد بكل استغراب وفضول». هنا تحتضر البراءة حين يثقل الجسد بحجم الأعضاء وتتخطى حاجز الزمن، ليلفت نظر المارة حتى العجوز التي لا تملك إلا ضرسين علويا وسفليا، «يا إلهي! لقد كبرتِ كثيرا، ماذا فعلتِ بنفسك؟». إنه العبور بين زمنين، زمن البراءة وزمن المراحل التي لا تقبل التوقف، وهي الحقيقة التي لا مهرب منها.
تضيء القاصة الزاوية الثالثة لتلك التي ضجت من الفراغ القاتل، حين خالطت العيش في المدينة من خلال قصة «المتمردة» في ما يظهر للمتتبع للنصوص أن النص الأول يبسط قضية الفراغ إلى درجة أن البطلة كانت تحسب لليوم الذي ستتوظف في هذه المدينة: «إذا حدث ونلت وظيفة هنا؛ كيف سأتعايش بكل هذا الفراغ الموحد لا أدري؟». نجد البطلة في القصة الثالثة وقد مارست العمل في المدينة وهي تعاني الداء ذاته ألا وهو الوحدة؛ الأمر الذي دفعها للميل إلى كتب الأبراج «وها هي الآن بأسلوب حياتها الممل، تعمد إلى النوم المفرط، والتهام الطعام بإغراق، وقراءة الأبراج إلى حد الهلوسة». «ولكن ماذا عساها أن تفعل غير ذلك؟ فالوحدة تجرفها إلى ذلك». وفي لحظة من تأمل ومراجعة للواقع؛ تمردت على واقع أدخلها عالم الغيبيات البشرية، طالما أخذها عالم الكشف عن مواطن الفرح والحزن، فتحررت من أقوالهم العبثية، على الرغم مما تتسم به تلك العبارات من غواية أقلها الوقوف أمام غول الفراغ الفاتك.
تركت التعامل مع الغيب البشري بكل ما فيه، واستسلمت لواقع مغاير تماما يميل إلى الواقع بكل صوره ليعبر بها إلى الحقيقة فـ»انتصرت لإيمانها، شعرت بأن شيئا ما غاب عنها وتناقص منها … نظرت إلى نفسها، وكأنها بعثت من جديد».
تتشابك النصوص في الثيمة ذاتها، فالنص الرابع يمثل الوقوف أمام الحقيقة، على الرغم من الضغوطات الهائلة التي تمارس من قبل الذين علقوا في الذاكرة بصور الرهبة وإسكات الألسن كان مفاده الخروج عن الإعاقة، كسر الأسوار، والتوجه إلى الحقيقة بكل مخاطرها، بصرف النظر عن الواجهة والظروف المحيطة بها.
وفي القصة التاسعة، التي تحمل عنوان المجموعة «الأحمر» على الرغم من سطحيتها إلا أنها تحمل في طياتها قرارا للانتقال من مرحلة إلى أخرى، وإذا أردنا أن نطلق على «الأحمر» مرحلة بعينها، فهذا سيجعلنا في حالة من الفرز ما قبل الأحمر في أبها صوره، وما بعد السقوط المدوي الذي أحدث نقلة لم تكن في الحسبان «وجدت نفسها وحيدة على الأرض إلا من نظرات الشباب وضحكاتهم الهستيرية». والعبور في هذه الحالة هو التحرر من رمز الغواية والتوجه إلى عالم الواقع الذي يرفض كل الأقنعة الزائفة، والأحلام التي تتقاذفها أمواج الخيال الجامح «نزعت العباءة الحمراء والحذاء الأحمر أيضا وألقتها في سلة القمامة وانهارت باكية وباكية وباكية..».
الأحمر إذن ذا علاقة بالجمال والبعد عن الواقع، وبالتالي الوقوف على مرحلته هو الوقوف على الخطر الذي يفــضي بك إلى محطــــات يرفضها العقل.
في الختام ….هذه هي المجموعة الأولى للكاتبة إشراق النهدي بكل صورها المميزة، وأنا أدعوها أن تُخْلصَ لدربِ القصةِ القصيرة، وألا يجذبها بريق الرواية أو ما يشاع من أن هذا الزمن زمن الرواية، كما أدعوها إلى أن تتخلص من الاستطراد الذي يثقل بنية القصة، وألا تعطي قيادها للسرد وغوايته، كالذي نجده في قصة مثل «لا تنتهي» التي تعدت صفحاتها الخمس عشرة صفحة كان من الممكن إيجازها إلى أقل من نصف هذا العدد.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى