لا هالة للشعراء في عكاظ الشعر الباريسي

عمار المأمون

شهدت باريس السوق الخامسة والثلاثين للشعر الممتدة لخمسة أيام، بحضور ما يقارب 500 ناشر، إلى جانب حوالي 350 شاعرا لتوقيع أعمالهم، كما يقام في السوق عدد من الجلسات المفتوحة واللقاءات الشعرية في سبيل مناقشة الشعر المعاصر ومستقبله واحتمالاته الجمالية في المجتمع اليوم، وخصوصا في ظل التشكيلات الاقتصادية المهيمنة، إذ تسعى السوق هذا العام لطرح سؤال مرتبط بدور الشعر اليوم.

وطبيعة الشكل الجمالي والفني الذي يدافع عنه الشعراء في ظل الصناعة الثقافية والإعلامية التي تهيمن على حياة الأفراد، إلى جانب طرح سؤال متعلق بطبيعة صناعة النشر، إذ أن عائدات مبيعات الشعر تشكل جزءا ضئيلا من عائدات المكتبات، ما يشكل تحديّا للناشرين، وخصوصاً أن الإنترنت وفرت إمكانيات تتيح الوصول إلى أغلب النتاج الشعريّ بسهولة، فسوق الشعر مناسبة لدعم هذه الصناعة التي حالها كحال صناعة الكتب بأكملها تواجه مشكلات عديدة مرتبطة بالتكلفة والإقبال.

وهذا ما يحضر في مفهوم السوق نفسه، فالحاضرون لم يأتوا فقط للكلام والتعارف، بل لاقتناء ولو كتاب واحد فقط، وكأنهم بفعلهم هذا ينافحون عن الشعر لا كنوع فنيّ بل كصناعة لا بد من استمرارها.
الشعر لغة المخيلة

هذا العام اختار منظمو سوق الشعر الممثل المسرحيّ جاك بونافية رئيسا شرفيًّا، فالأخير إلى جانب نشاطه الفنيّ يقدم برنامجاً يومياً عن الشعر على قناة فرنسا الثقافية للراديو، وفي حديث له قال “لطالما كانت الشعريّة كلمة تسبب الخوف أحياناً، هي لا ترتبط بالشعر المكتوب فقط بل ترتبط أيضا بسلوك متكامل، أنا لست شاعراً، لكن أثناء عملي كممثل لطالما حاولت تلمس الشعر والاستفادة منه، وخصوصا أن اللغة الدرامية هي لغة الحياة اليوميّة، في حين أن الشعر هو لغة المخيّلة والروح التي تأخذ الإنسان بعيدا”.

أما المشرف العام على سوق الشعر فينسيت جيمينو فيقول عن بعض الحاضرين “تتيح سوق الشعر للكثير من الشعراء الجدد -الذين لم ينشروا كتبهم أو لم تتح لهم فرصة النشر أو ليسوا ضمن البرمجة الرسمية للمهرجان- المشاركة، إذ يحضرون بين الناس لإلقاء قصائدهم وكأن لسان حالهم يقول هذا أنا وهذا ما أكتبه من شعر”، الوصف السابق يجعل تجربة سوق الشعر منفتحة على المفاجآت التي لا يخلو منها المكان، كأن يأتي أحدهم مع الأكورديون الخاص به لإلقاء قصيدة ثم المضي في حال سبيله.

لا تقتصر السوق على الدواوين الشعريّة التقليدية، إذ نجد الفن التشكيلي والأداء الشعري لا عبر الإلقاء فقط، بل أيضا عبر الأداء الفني الذي يتداخل فيه الرقص مع التمثيل، كذلك الذي شهدته السوق نفسها من فناّنين وممثلين يلقون قصائدهم الشخصيّة مع أداء لبعض الشخصيات، إلى جانب عروض الأداء المتنوعة التي شهدها هامش سوق الشعر، كالعرض الذي قدمته ماتيلد روّ، موظفة الفضاء المعيش وعلاقته بالممارسة الفنية عبر النص والصورة.
كذلك تحضر أعمال أنيال شادلي التي تتداخل فيها النصوص والصور، مستفيداً من الجمل والكلمات لخلق لوحات أقرب إلى أعمال السورياليين الأوائل، هذه الأعمال الأدائيّة والفنيّة تعيد طرح التساؤلات حول الشعر وشكله، بوصفه حيويّاً وعضويّاً، لا فقط حبيس الكتب والصفحات، بل قريب من الناس يشاركهم فضاءاتهم.
تحطيم الأبراج العاجية

سوق الشعر فضاء للحوار يقف فيه الجميع على قدم المساواة، إذ لا هالة تحيط بأحد، بل نرى شعراء كبارا ذوي العشرات من الكتب إلى جانب شبان ما زالت تجربتهم الشعرية في بداياتها، فسوق الشعر تعكس الجوهر الشعريّ الذي لا يعرف عمراً ولا لوناً ولا جنساً ولا حتى شكلاً محدداً للمُنتج.

كما أن السوق تمثل مساحة مفتوحة لا حميميّة فيها، على النقيض من تجربة القراءة الفرديّة أو تلك التي في المكتبة حيث يهيمن الصمت، ما يحوّل القراءة إلى عمل وظيفي نوعاً ما، فسوق الشعر تنزع القدسيّة والهالة المحيطة بالشعر، بوصفه في متناول الجميع، إذ لا مسافات ولا أبراج عاجيّة، فقط مساحة علنيةّ للنقاش وتبادل الآراء حول الشعر الذي برغم كل ما يشهده العصر من تطورات هناك يقين لدي أنه لن يندثر أبداً.

يقول أوليفية شودونسون مدير بيت الشعر في باريس في سؤال عن رواد سوق الشعر “الكثيرون منهم يهتمون بالشعر، إلا أن المميز في السوق أنها تكسر العزلة المرتبطة بالشعر، وتعيد ربطه بالأدب بوصفه أكثر عمومية من الشعر، خصوصاً أن شفوية الأخير وقراءته العلنيّة تتيح للفرد أن يحبّ الشعر أكثر ويقترب منه، ويَكسر حاجز الخوف المرتبط به، خصوصاً أن البعض يرى أنه لا يمتلك السوية الثقافية الكافية لقراءته وفهمه”.

شهدت سوق الشعر حضوراً عربياً، إذ قام الشاعر نوري الجراح بتوقيع ديوانه “قارب إلى ليسبوس” الذي ترجمه إلى الفرنسية أيمن حسن، كما حضر اسم خلود الزغير التي نجد في السوق كتبا لها تمزج بين الشعر والفن التشكيلي، إلى جانب دواوين لكل من مرام المصري وأشرف فياض.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى