«ذات العوالم الممكنة» وأفق التجريب في القصة المغربية

رشيد أمديون

الرحلة الزمنية الطويلة التي قطعتها الكتابة السردية جعلتها أكثر انفتاحا وقدرة على التشكل بأنماط جديدة، وأكثر جرأة على طرح القضايا ومقاربتها. ومع التجريبيين، لم يعد الأمر يتعلق بإعادة إنتاج الحياة، بل باكتشاف يتم عبر اللغة، وبتخييل مفرط لا يسعى إلى محاكاة الواقع، بل إلى عرض الجانب التخييلي للواقع. وبقراءة نصوص «ذات العوالم الممكنة» للكاتب المصطفى سكم نستحضر هذه الرحلة الزمنية، التي أثثت جسد السرد العربي والمغربي بالخصوص، فهذه المجموعة التي تضم 76 نصا ما بين القصير والقصير جدا، وتقع في 79 صفحة من الحجم المتوسط، تبرهن على ما وصلت إليه القصة التجريبية، التي ترفض التقليد والخضوع للقوالب الكلاسيكية الجاهزة، التي تكتفي بحمل حكاية وسردها.

عتبة النص

إن ما تطرحه المجموعة من عوالم ممكنة تحيل إلى فهم محدد، وهو أنها قابلة للحدوث ولا تخرج من دائرة الممكن، مهما عالج السرد تلك القضايا الجوهرية التي هي أساس الوجود معالجة تخيلية، لأن ذلك يقوم على منطق مقابلتها بالعالم الواقعي الذي يُعاش انطلاقا من التجارب الذاتية والحياتية، أما عنصر التخييل فهو مطلوب لإحداث العلاقة بين المفترض والواقعي. ثم وبعد التأمل في العنوان المركب من ثلاث كلمات: ذات/العوالم/الممكنة، يمكننا أن نسأل ما هي (هذه) التي تحتوي العوالم الممكنة؟ فعنوان المجموعة يحيلنا إلى تأويلين، أولهما إذا اعتبرنا أن كلمة «ذات» لغويا هي مؤنث «ذو»، لتصبح جملة العنوان: «صاحبة العوالم الممكنة»، فيشير المعنى مباشرة للمجموعة على اعتبار أنها تضم نصوصا قصصية تومئ إلى هذه العوالم وتسعى إلى التنبيه إليها، على اعتبار أنها غير غائبة أو مستحيلة، بل هي ممكنة وقابلة للتحقق.
والتأويل الثاني: إذا اعتبرنا أن كلمة «ذات» تعني لغويا: الذات، كذات الإنسان التي تمثل كيانه المستقل. وبناء على هذه الدلالة التأويلية يستطيع القارئ أن يعتقد أن للعوالم المطروحة للتأمل عبر المجموعة ذاتا، وهي ذات قائمة الوجود، لكنها تحتاج إلى عملية تجريد العقل من نمط التفكير السائد والقائم على التقليد، لا على الفهم والإدراك، ومن خلال الوعي بهذه العوالم الممكنة، يحدث أن يعيد الإنسان معرفته بذاته، فمعرفة الذات تعتبر في حد ذاتها عتبة المعرفة ومنطلق قراءة كل العوالم الأخرى الممكنة والافتراضية، بل يدرك عبرها الإنسان سر الوجود، كما في نص «سر المخطوط» حيث نقرأ: «إن قرأتني، اتبعني من حيث أتيت تدرك سري». ولهذا كان نص مشورة يؤسس لقضية الشك التي جاء بها نيتشه، ويكرس مفهوم تحطيم ما تم اعتقاده، ثم إعادة تأسيسه تحت مجهر الشك أولا، على اعتبار أن طريق المعرفة ليس سهلا، فهو يحتاج لتأمل وجهد فكري وعقلي. وعليه، إن التأويلين معا للعنوان – في اعتقادي- يخدمان المجموعة على مستوى الدلالة سواء كانت كلمة «ذات» تعني صاحبة، أو أنها تعني وحدة هذه العوالم في كيان موحد يسمى ذاتا، لأن الطرح الأوحد يتجلى في ماهية هذه العوالم الخاضعة لما يُسمى بالممكن.

النص وتأويله

وبالنظر إلى نصوص المجموعة نجدها تتعاضد في ما بينها، كي تشكل سلسلة من التأملات العميقة، الذاتية والوجودية، إنها تعطي للسؤال الفلسفي فرصته في أن يجد له مواطن راسخة في رحاب الإبداع القصصي والأدبي، من خلال معالجة قضايا تعد أساس الوجود، كالوجود نفسِه، والذات، الغير/الآخر، التفكير والنظر، المجتمع والسياسة، التاريخ، الموت والحياة، المرأة، الحرية وحق الإنسان في الوجود، والتصوف كسلم للتطهر. كل هذا من منطلق إعمال آليات التفكير العقلي، وتأثيث موضوعات النصوص، بشكل يتوافق مع فنية بناء النص القصصي، سردا وحكاية ولغة، بل اتخاذ هذه العوالم مقصد الكاتب والمتلقي معا، كي ينبني المشترك وتتقارب الرؤية العامة، وحتى إن اختلفت زوايا النظر والتأويلات المفسرة للنصوص، حتى تتسع رقعة التساؤل والتأمل وإعادة البحث، ودائما في الإطار الذي رسمه النص بلغة مختزلة ومكثفة وعميقة. ويمكننا أن نشير إلى بعض من العوالم التي أثث بها القاص نصوصه، على سبيل المثال لا الحصر..

عوالم الذات

بالنظر في بنية ترتيب المجموعة، نرى أنها مقسمة إلى قسمين، الأول يحمل اسم: عتبات الذات، والقسم الثاني: تأملات الذات، ما يحيل إلى أن هناك اهتماما خاصا بعوالم الذات، سواء على مستوى العناوين أو على مستوى مضمون النصوص. وفي اتجاه عتبة الذات سفر طويل قصد خلق التوازن العقلي والروحي، والاستغناء عن طرح التساؤلات هو وصول إلى اليقين، وطبيعة الذات البشرية لا تقبل الفراغ، فإما الشك وإما اليقين. وفي نص «دفاتر الصباح» قال الكاتب «هرولت مقفلا بابي في وجه الفراغ فابتلعني الامتلاء».

عوالم الغير/الآخر

الآخر الذي هو طرف التحاور، الآخر باعتباره المخالف الذي يجعل قلق الذات دائم الاستمرار، مرآة يقيِّم الإنسان من خلالها وجوده ويقيم ذاته، إنها انعكاس صورة الإنسان للإنسان، الصورة المادية والحسية معا، فنقرأ «يختفي صوت الغير وراء الحجب يشهد على انجذاب الأنا وراء إشراقة ثاوية في قلب المرآة، تلمع بريقا يعمي العين، يطفئ نور الفؤاد، تتشبث الذات باستعادة ذاكرتها المفقودة بين ثنايا الجسد المسلوخ عن الروح، لا تستعيد سوى صور حسية تصيبها بالدوار تقذف بها خارج الزمان». وفي نص «الغير فوبيا» يحيلنا عنوانه المركب إلى ذلك القلق المستمر اتجاه الآخر، ما يخلق خوفا مرَضيا ملازما للذات.

عوالم الشك والمعرفة

تناول نص «كوجيتو» فلسفة ديكارت المختزلة في عبارته المعلومة، أنا افكر إذن أنا موجود، وقد وظفها الكاتب بشكل بديع ومتقن، مبلّغا مقصدية النص، أن التفكير العقلي، حالة من حالات الوجود نقرأ: «ظل متشبثا بشكه لإثبات وجوده»، وهذا لأن الشك أولى خطوات التفكير. وفي نص «أصل» يطرح مسألة إعادة المفاهيم والأشياء إلى أصولها الأولى، لهذا فالنص يبين أن الإنسان العارض عن التفكير، قد يرى الأشياء ومعطيات الواقع مغلفة بالبداهة، لهذا قال نيتشه «إن الحقائق أوهام نسينا أنها كذلك». ولعل نص «زراعة فيها نظر» يؤسس للفكرة ذاتها، فقد جادل الأبناء والدهم العجوز بسبب عدم توقفه عن الزراعة، وإصراره وإرادته القوية على العمل، فنقرأ في النص: حدّق مليا في أذهانهم قال: «أنتم لا ترون مثلي»، ما يدل على أن العجوز كان يقصد الرؤية العقلية لا الرؤية العينية، فالتحديق في أذهانهم يعني وزن تفكيرهم وتقييمه. ولكن قصر نظرهم جعلهم لا يرون في عمل وكلام والدهم إلا الجانب المادي، لا الجانب الفكري والمعرفي، فكانت نتائج الفهم عندهم سطحية.

عوالم الحرية

الحرية قيمة أساسية ترتبط بالفعل الإنساني وهي حرية طبيعية جوهرية في ذات الإنسان، وحرية اجتماعية قائمة على منظومة أفكار وثقافة ومعتقدات، لكن هذه المنظومة حين تتحول إلى نظام سياسي يخدم مصالحه ويؤمّنها حفاظا على استقراره الدائم، ولو على حساب كرامة الآخرين يصبح كسيف الحجاج بن يوسف، الرامز بشدة للآلة القمعية. في نص «مزارات ليلية»، الذي يحيلنا إلى الثورات العربية أيضا، نقرأ: «تتراقص الأغصان فرحة بالربيع/يفتح الحجاج بن يوسف الثقفي شرفته يسل سيفه/يقتطفها/تسافر الريح بأوراقها/وظل الجذع ينزف ماء متخثرا يروي الأرض».
وفي نص «مصير» الذي يشير ضمنيا إلى فترة الاعتقالات التي شهدتها الحركة الطلابية، نرى أيضا البعد الإنساني للقضية. وإن مطلب الحرية حق مشروع، لهذا فمطاردته للحرية المنطلقة في المدى كغجرية فارة من سلطة العسس، ستعيد إليه كرامته وتحقق إنسانيته، بيد أن هذه تحتاج من الإنسان وعيا وفكرا، فمطلب الحرية ليس شعارا مجردا من قيمة، ولا يحقق سعادة الإنسان إن كانت على حساب حياة الآخرين وحرياتهم، في نص «سعادة بجعة»، قالت حورية البحر للباحث عن السعادة: «من واجبك أن تسمو عبر آلامك… وقالت له البجعة: «أو تسعد بالانتقام من الحياة؟» ثم يلفظه الموج قائلا: «أنت لا تستحق أن تكون سعيدا».
عالج سكم قضية الحرية من منظور آخر عبر نصوص أخرى، كطرح السؤال باعتباره إشكالية معاصرة تزامنت مع فترة الثورات العربية، هل تحرر الإنسان العربي لا يأتي إلا باحتراق الأجساد؟ ونص «برهنة بالمقلوب»، لا يجيب عن التساؤل بقدر ما يسخر من الإعلام العربي الذي يخدم مصالح بلده بتأجيج وتعقيد الإشكاليات ليكون المستفيد اقتصاديا هو الداعم لهذا الإعلام.
وفي الأخير.. تبدو نصوص الكاتب المغربي المصطفى سكم غاية في تحفيز المتلقي لإعمال عقله وخياله، واستكمال حياة النص من خلال تأويله، هذه النوعية من النصوص التي تجعل من التلقي إبداعاً، ولا تستسلم لتجربة القراءة التقليدية.

(القدس العربي9

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى