«اصطياد أشباح» إعادة تدوير السجن

محمد شعبان

عندما أراد المخرج الفلسطيني رائد أنضوني مقاربة كدماته النفسية، الناتجة عن تجربة اعتقاله، قصد عيادة طبيب نفسي، وانطلق معه بمغامرة علاجية، اختتمها بباكورة أعماله الطويلة، «صداع» ( ٢٠٠٩). وعندما أراد تعريتها ومواجهتها، نشر إعلاناً في صحيفة محلية في رام الله، طلب فيه معتقلين سابقين للتمثيل، محدداً أن يكونوا حرفيين وفنيين. وهو برفقتهم، أعاد بناء معتقل يحاكي مركز «المسكوبية» للتحقيقات السيئ الصيت، ليفرج، أخيراً، عن الشريط الجديد، «اصطياد أشباح».
يرتكز الشريط، بالأساس، إلى قصة المعتقل السابق، محمد خطاب (أبو عطا)، الحاضر في الشريط بشخصه، وبما رسخ في ذاكرته. وبإحساس عال، يسرد ما مر به خلال تجربة اعتقاله، وما رافقها من معاناة نتيجة آليات التحقيق العنيفة التي تعرض لها، وما قابلها لديه من انفعالات وتمرد لمواجهتها، تاركاً للممثل رمزي مقدسي (إعادة تمثيل) تلك الذاكرة، التي تتداخل مع قصة أنضوني ذاته، وقصص شخصيات الشريط: عاطف الأخرس، وديع حناني، عدنان الحطاب، عبدالله مبارك، أنبار غنان، رائد خطاب، ومنذر جوابره. المكان- المعتقل افتراضي، لكن الشخصيات- الحكايا حقيقية، كما أن التجربة مريرة وقاسية، ما يعيد إلى السطح ما تراكم على مدى سنوات. كل ذلك، يحيل إلى سؤال كيفية إعادة سردها بصريا، بالتوازي مع سؤال مقاربتها أخلاقياً، وغيرها من الأسئلة، التي نجح أنضوني، إلى حد كبير، في الإجابة عنها، في (مغامرته) السينمائية.

«مسرحة» المكان
في البناء البصري، ثمة مواءمة في استعادة ما في ذاكرة المعتقل- الشخصية وراهن حالها، في لقطات تتواتر زمنياً، فلا يمكن لمشاهده، على مدى ٨٩ دقيقة، أن يتتبع خطاً سردياً- كرونولوجياً محدداً. ولأن التصوير في مكان واحد ليس بالأمر اليسير، نشهد نزعة إلى «مسرحة» المكان، و «وربط» الشخصيات في لعبة المرايا، الأمر الذي خلق مساحة جيدة للتجريب.
وفي «تلصص» الكاميرا خلال البناء والتحضير، تلتقط تفاعل الشخصيات في اليومي العادي، تسجيلاً، فالجميع مشغولون بأمور أخرى، هناك منافسة خلال عملية البناء، وهناك حبيبة تراسل خطيبها، وهناك اختناق خلال السرد، يليه دموع تذرف خارج الكادر، ليوظف أنضوني كل ذلك، في مشهد هنا، ولقطة هناك، في السياق السردي، قبل أن يخرج ما في دواخل الشخصيات من احتقان وغضب، عبر إعادته إلى البداية، لحظة الوصول إلى المعتقل، وعبر محاكاة شخص سجانها، وتعرية ممارساته البهيمية، والسخرية منه، بالأغاني حيناً، وباستفزازه وشتمه أحايين أخرى.
بيد أن اللجوء، أكثر من مرة، إلى إعادة تمثيل ما يقوله أحد الشخوص، يبدو غير مفهوم، لجهة اعتماد الآليتين، السرد والتمثيل، كما في مشهد «التبوّل». كما لا يبدو أن استخدام (لقطات التحريك) قد شكل إضافة مميزة على الشريط، وهو الغني، بالأصل، بعناصره الفيلمية.
لوهلة أولى، تبدو فكرة إعادة بناء معتقل، واستدراج الذاكرة، بمرارتها، إلى فخ الحضور الفج، ضرباً من السادية. لكن، عن أي ذاكرة نتحدث هنا؟ ففعل الاعتقال لا يزال مستمرا، أي أن الذاكرة حاضرة ما حضر الاحتلال، حتى أن أحد شخوص الشريط سيعاد اعتقاله خلال التصوير، وهو الذي سيهدي أنضوني العمل إليه. والحال أن «معتقل سابق» تكاد تشكل «هوية» بحد ذاتها، ما يحيل إلى فلسطين مصغرة، يجترع سكانها- معتقلوها مرارة التجربة. كما أن امتلاك الحكاية، استعادتها، وبالتالي مشاركتها، هو فعل إنساني بدرجة أولى وأخيرة.
وعلى رغم أن أنضوني أعلن لاحقًا، في مقابلات عدة، عن «مرافقة طبيب نفسي لكامل أطوار العمل، ومنحه الشخصيات حرية الانسحاب متى شعروا بعدم القدرة على الاستمرار»، بيد أنه نجا من «مآزق» عدة، كان منها، مثلاً، في حديث أحدهم عن تجربة اعتقال أخيه، وصولاً إلى الاختناق وعدم القدرة على الاستمرار في الكلام، قبل أن تخرجه الكاميرا من الكادر، لكنه سيعود لاحقاً، للقول إنه يشعر بارتياح كبير، بل ويشكر أنضوني على منحه فرصة المشاركة.

ذاكرة مثقلة بالصمت..
مشهد الدبكة، احتفاء باقتراب موعد حفل زفاف أحد الشخوص، يظهر أي مقدار من الاحتفاء بالحياة تنشده الشخصيات، فيما يكاد مشهد دخول الأطفال، أبناء المعتقلين، إلى المعتقل- مكان التصوير، يلخص كل الحكاية: انتشروا في المكان كما لو أنهم في حديقة عامة، أو في مدينة ملاهي، وسؤال واحد يدور في أذهانهم: أين الألعاب؟
«اصطياد أشباح» ليس وثيقة، بمقدار ما هو تجربة غنية تجاوزت، بمسافة كبيرة، قضية المعتقلين الفلسطينيين، لتلامس كل ما سبقها، وما قد يليها، من قضايا مشابهة. تجربة عنوانها العريض: هذه الذاكرة المثقلة بالصمت، قابلة للبوح والتحرر، وهذا المكان الهش، قابل للهدم، ولإعادة التدوير.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى