في ظل الأزمة الاقتصادية وغياب الرعاية الرسمية: واقع النشر في الجزائر… ناشرون بلا نشر

الخير شوار

يتراجع بشكل كبير طبعُ الكتاب ونشره في الجزائر، ليس بسبب الكتاب الإلكتروني الذي لا يزال هناك في أطواره البدائية، وإنما لأسباب تتعلق بالتمويل، في ظل انسحاب الرعاية الرسمية مع الأزمة الاقتصادية التي تفجّرت بانهيار أسعار النفط منذ سنوات، وغياب سوق حقيقية للنشر تعتمد بشكل مباشر على قواعد الطباعة والنشر والتوزيع بالطرق المتعارف عليها. فالأزمة الاقتصادية قامت بتعرية واقع النشر في الجزائر، الذي مع استثناءات قليلة جدا، بقي نشاطا طفيليا. ورغم طبع الآلاف من الكتب في وقت سابق، إلا أن معظمها لم يكن يصل إلى القارئ مع غياب شبكات التوزيع، وتقلص عدد المكتبات في مختلف أنحاء البلاد. وبقيت أكوام الكتب التي نُشرت مدعومة بشكل كلي مكدسة في المخازن، حتى تعرض الكثير منها للتلف. كما يُجمع الناشرون والمؤلفون على أن التوزيع هو أصل المشكلة والناشرين والمؤلفين يجمعون على ذلك، وهذا يعود إلى سنين طويلة، عند انسحاب شركة «هاشيت» الفرنسية، التي كانت تنظّم سوق الكتاب في الجزائر أيام الاحتلال، وفي السنوات الأولى من الاستقلال. وحاولت السلطات أن تكسب الرهان مع «الشركة الوطنية للنشر والتوزيع»، لكن النقص كان واضحا، رغم الدعم المالي الكبير لتلك المؤسسة، التي تحوّلت بعد ذلك إلى «المؤسسة الوطنية للكتاب» قبل أن يُعلن إفلاسها بشكل كلي مع بدايات تسعينيات القرن العشرين، ويعود الكتاب في الجزائر حينها إلى حالته البدائية نشرا وتوزيعا. ومع حالة الفراغ تلك تكفلت بعض الجمعيات بنشر الكتاب الأدبي، على غرار ما فعلته «الجاحظية» برئاسة الراحل الطاهر وطار، الذي اعتمد صيغة «النشر المشترك» مع المؤلف بتمويل «معقول» من الأخير، لكن بصناعة بدائية اعتمد فيها على ورق الفاكس وفي غياب التوزيع، قبل أن تتطور العملية شيئا فشيئا بعودة الدولة لتمويل الكتاب بدءا من «صندوق دعم الإبداع» في تسعينيات القرن الماضي.
هنا بعض من آراء المثقفين وأصحاب دور النشر تعليقاً على الأزمة ..

المؤسسة الرسمية تتخلى عن الكاتب والكتاب

اللافت بداية أن عدد دور النشر لم يكن يتجاوز الـ 200 قبل خمس عشرة سنة، وتضاعف مرّات عديدة، بل واقتحمه أناس لا علاقة لهم بالنشر، وبعضهم يتحايل على القوانين مؤسساً عددا من دور النشر بأسماء مختلفة، طمعا في الدعم، وكما أكد «عبد الكريم ينينة» صاحب «دار الكلمة» أن دور النشر تتعامل مع وزارة الثقافة وليس مع الكاتب، من خلال ما تمنحه الوزارة من مشاريع مضمونة الربح لهذه الدور، التي تأسست في زمن انعدام الدعم وتحاول فرض نفسها بطرق تمويل غير تقليدية. ويضيف ينينة أن صناعة الكتاب تخضع للشروط نفسها التي تحكم المواد المستوردة، باعتبار أن جل المادة التي تدخل في هذه الصناعة مستوردة (حبرا، ورقا، غراء) إضافة إلى قطع غيار المطابع، كل هذا في مقابلة انخفاض سعر البترول، وبإجراء مقارنة بين حالة الطبع سابقا وحالته الراهنة ندرك أن انتعاش النشر محكوم بانتعاش أسعار البترول، وهذا مؤسف بالنسبة لبلد مثل الجزائر، حيث خضع دعم الكتاب لإجراءات التقشف بسبب الأزمة الاقتصادية، في حين أن الوحيد المؤهل لإخراج البلدان من أزماتها هو الكتاب. ويرى ينينة أن مشكلة التوزيع، تكمن في غياب مؤسسة عمومية للتوزيع، مثلما كانت في السابق، فالموزعون لا يوصلون الكتاب إلى كل ولايات الوطن، كما أنهم يأخذون نسبة على هذه العملية تفوق ما يأخذه الكاتب، إضافة لانعدام عملية الترويج للكتاب وانعدام الإعلام الثقافي المحترف، وتخلي المؤسسة الرسمية عن الكاتب والتكفل بإنتاجه.

التقشف الثقافي وتبعات الأزمة الاقتصادية

وترى الشاعرة والصحافية المهتمة بعالم النشر «نوارة لحرش» أنه بدءا من العام 2003 عاش قطاع النشر في الجزائر بحبوحة كبيرة، استفاد منها الكثير من الناشرين ودور نشرهم، حتى أنّ هذا الدعم جعل البعض يفكر في تأسيس دار نشر والانخراط في عالم الكُتب والطبع، بما أنّ أموال الدعم متوفرة وبغير شروط، إلا أنه بعد ذلك ومما يقرب العامين دخلت الكثير من دور النشر في دوامة من إرباكات الأزمة المالية التي لحقت بالجزائر جرّاء تدني أسعار النفط، التي مست الكثير من قطاعات البلد في الصناعة والتجارة والبنى التحتية، وطبعا قطاع الثقافة ــ الذي انتهج سياسة التقشف وترشيد النفقات ــ وكذا قطاع النشر والكِتاب، ما جعل البعض ينسحب بصمت ودون ضجيج من عالم النشر. وتضيف لحرش .. الأكيد أنّ البقاء في هذا النشاط الذي خلخلته «أزمة اقتصادية»، يحتاج إلى صبر وشجاعة، وإلى منسوب مرتفع من رغبة التحدي والمواصلة، انتصارا للكِتاب ولفعل النشر. وهذا طبعا لن يكون إلاّ مع دور النشر المحترمة المؤمنة بالعمل، رغم كلّ الصعوبات والتحديات، ومع الناشرين الذين لهم تقاليدهم ومبادئهم وشغفهم بالنشر والكِتاب فالأزمة الاقتصادية أثرت كثيرا على عملية النشر، وهي ضربة موجعة للنشر، والناشرين الذين وجدوا أنفسهم بعد نِعمة إغداق صندوق الدعم عليهم، في حالة، أو على حافة الإفلاس.

التظاهرات الثقافية ومؤسسات التمويل

ويلاحظ أن الدعم الكبير للكتاب جاء من خلال محطات كبرى ذات طابع سياسي عموما، حيث شهدت سنة 2003 طفرة كبيرة في هذا المجال، من خلال تظاهرة «سنة الجزائر في فرنسا» فتم طبع وترجمة المئات من العناوين، معظمها لم يصل إلى القارئ العادي، واكتفى الناشرون بطبع الكمية الموجهة للمؤسسات الممولة، والأمر نفسه تكرر سنة 2007 مع تظاهرة «الجزائر عاصمة للثقافة العربية»، ثم برنامج «المهرجان الإفريقي» سنة 2009 وتظاهرة «تلمسان عاصمة للثقافة الإسلامية» سنة 2011، حيث تضخم عدد دور النشر وطُبعت الآلاف من الكتب، بما فيها التراثية التي عمد فيها «الناشرون» إلى استخدام تقنية التصوير الضوئي، من كتب قديمة وإبرازها ككتب جديدة على حساب الكاتب الحقيقي والناشر الحقيقي المغيّبين. ومع تظاهرة «قسنطينة عاصمة للثقافة العربية» سنة 2015 ازداد عدد الناشرين ووافقت الوزارة على طبعت المئات من العناوين، قبل أن تتراجع بفعل الأزمة الاقتصادية التي انفجرت بفعل انهيار عوائد النفط، وانتظر الكثير عودة «صندوق دعم الكتاب» الذي بقي مجمّدا إلى أجل غير مسمى، وانسحب الكثير من الناشرين من الساحة وبعضهم جمّد نشاطه في ظل غياب الدعم وهو ينتظر عودته ليعود إلى نشاطه. وجاءت هذه الأزمة لتعرّي واقعا مأساويا بقي مخفيا لسنين طويلة، حيث يتضاعف في كل مرة عدد الناشرين الطامحين والطامعين في المال العام، في وقت لم يستفد فيه الكاتب شيئا، وهو يرى كتابه المطبوع لا يصل إلى القارئ وبعض المؤلفين، وكثير منهم لم يأخذ حقوقه المادية التي يكون هذا الناشر المحتال أو ذاك قد استولى عليها واختفى.

الجزائر تقرأ في ظل تجربة الشباب

ورغم قتامة واقع النشر في الجزائر الذي سيطر عليه لوقت طويل أناس لا علاقة لهم به، إلا أن هناك بعض الاستثناءات مع بعض المبادرات الشبابية، التي تحاول فرض نمط جديد من النشر بالاعتماد على الوسائط الإعلامية الجديدة وشبكات التواصل الاجتماعي، مثل مبادرة «الجزائر تقرأ» التي بدأت أولا صفحة في «الفيسبوك» قبل أن تتطور إلى دار نشر تحاول التواصل مع القارئ والكاتب بشكل مباشر، وتزاوج بين النشر الإلكتروني والنشر الورقي. ويؤكد مؤسس هذه المبادرة الكاتب الشاب «قادة الزاوي» أنه من إحسان الأزمة الاقتصادية التي انعكست على واقع النشر أن بات على الناشر الجزائري أن يولي اهتمامه بمنتوجه وبالقارئ كي يبقى على قيد الحياة، وأن يساير التغير السريع في هذا العالم واستحداث تحسينات جوهرية تفرضها الرقمنة والتكنولوجيا. وعن مشروعه يؤكد الزاوي .. إن ولوجنا لهذا العالم جاء من منطلق إيماننا العميق بوجود قارئ نموذجي في الجزائر، قارئ لم يتشبع بعد بالكتاب الورقي وذواق للإبداع الكتابي. لهذا نحن مطمئنون ومتفائلون بواقع أفضل في النشر يكون فيه احتضان الإبداع الكتابي مهمتنا والقارئ الجزائري وجهتنا لتصدير هذا الإبداع. ويضيف الزاوي .. ربما أحد نقاط قوتنا في «الجزائر تقرأ» هو تواصلنا المباشر واحتكاكنا مع القارئ عبر منصات التواصل الاجتماعي، عبر عدد من المتابعين يقتربون من المليون، نسعى لبناء شبكة لا يشعر فيها القراء بالغربة ويستمدون روح المبادرة للخروج بالفعل الثقافي للشارع. كما أننا نستغل التكنولوجيا في عملنا كناشرين، كمشروع المتجر الإلكتروني الخاص بالدار، الذي يمكن القراء من الحصول على كتبهم عبر ضغطة زر، وهو ما سيقضي على أزمة التوزيع التي تعد أحد أكبر المشاكل التي يتـــعرض لها الناشر الجزائري.
وأخيرا نجد اختفاء العشرات من الناشرين الطفيليين، أو على الأقل جمّدوا نشاطهم في انتظار عودة «كعكة» الدعم، ولم يبق في الساحة إلا بعض الناشرين الحقيقيين يحاولون إعطاء صورة أخرى لواقع سيئ، عجزت مليارات الدعم عن تغييره في ظل استمرار ثقافة «الريع» منذ زمن بعيد.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى