«سورية في القلب» تحية من المنفى لإبراهيم برغود

هيسم شملوني

يأتي معرض «سورية في القلب» للفنان التشكيلي السوري إبراهيم برغود (صالة الفن – فيينا) استمراراً للمعارض التي أقامها الفنان في بلدان عدة منها سورية. نبعت فكرته مثل سابقاتها نتيجة اهتمامه بالحالات الإنسانية، ولذا نجد أن غالببية اللوحات عبارة عن وجوه تعبيرية، نظراً لفهم الفنان أن الوجه هو مرآة الإنسان وصورته، وهو التعبير الأول عن حالة الإنسانية، وأن العيون تشكل مفاتيح دواخلها.
استنبط برغود الفنان الضالع بالهم والأمل والمثابرة وسيلته المبتكرة للتعبير عن همه السوري والوجداني. فأخذ يضرب بفرشاته والألوان سطوح لوحاته ليحولها إلى أعمال فنية تحاكي الهم السوري المعاصر، مختزنة في ثناياها مشاعر إنسانية عالية. وعلى هذه السطوح كان قد نسج الفنان مسيرة مخزونه الفلسفي والمأسوي، في جدلية شعرية تشكيلية قائمة على الحوار اللوني المحترق بالهم القائم، باحثاً فيها ومن خلالها عن صدقية التاريخ، الإنسان، الأرض، وأثر الزمان.
وعلى رغم رمزية لوحاته وأفكارها المتجاوزة حدود ما تظهره، فإنها لا تفارق حاضرها القائم في التعبير عن الذات السورية المقاومة حيناً والمصلوبة على جراحها أحياناً، سواء على جبهة القتال أو جبهة الوعي الثقافي. يرسم الفنان ذاته السورية اللاجئة في رحلات الموت والمعبرة عن مسيرته كفنان له معاناته الإنسانية ومعاناته كلاجئ سياسي.
وعن هذا يقول برغود: «عندما ارسم أي وجه فأنا ارسم نفسي بأحاسيسي ومشاعري الإنسانية، لأني احس بشعور كل طفل يقتل أو ييتم أو يشرد، كما أحاول الوصول إلى عذابات المعتقلين والمغيبين، لا تزال ترعبني صور من ماتوا تحت التعذيب، كما لا يزال يرعبني تصوري عذابات المحاصرين وأنا أسمع أنين أمعائهم الخاوية، وتكسّر أرواحهم وأجسادهم الظمأى».
أتى الحراك الشعبي في سورية ليشكل انعطافة حادة في المسيرة العامة للأفراد والجماعات، وكان أن نحا برغود نحو الجميع بحس الفنان ووعيه فكان انحيازه واضحاً للضحايا، وعبّر عن ذلك في مجموعة كبيرة من لوحاته، والتي قام بعرضها للتعريف بحالة الضحايا القابعين بين مجزرة وتغريبة، وزاد تعمقه في هذا الموضوع لاعتباره قضيته الأولى مع إطلاق أول رصاصة على الأهالي والأطفال الآمنين في سورية، ما زاد في شحنته التعبيرية مترافقاً مع تزايد الأحداث والكوارث الإنسانية، مضافاً إليها التهجير القسري للأهل من البيوت والقرى والمدن وفي ما بعد من البلاد بأكملها، وكأن الحرب أرادت أن تقول إن البلاد ضاقت بضحاياها. كل ذلك كان ملهماً لأعماله وعناوين معارضه التي أقامها وكان آخرها «سورية في القلب»، والذي تماشى مع الشعور العام لدى السوريين بحالة الفقد للوطن والإنسان، والتدمير العام للذكريات.
احتوى المعرض على أربعة وستين عملاً مختلفة الأحجام والمساحات، تناول فيها الرسام الأحداث والذكريات في وطنه. وحمّل كل لوحة من لوحاته رسالة مباشرة إلى المجتمع الأوروبي الذي يعيش فيه لاجئاً وإلى العالم الذي يرغب في أن يلعب دوراً مباشراً في وقف نزيف الدم في بلاده. رسائل تحمل ما تحمل من ذكريات الطفولة والشباب، والحنين إلى حضن الأم وحنانها وإلى عطف الأب ومحبة الأخوة والأصدقاء، كما تحمل تفاصيل الذكريات في وطن باتت وحدته أشلاء. وعن ذلك يقول: «في معرضي هذا أبعث برسالة من أطفال ونساء وشيوخ في سورية، من كل شجرة فقدت أوراقها، من كل سنبلة قمح تساقطت حباتها، من كل غصن زيتون محترق، من كل عصفور هجر قسراً من وطنه، من كل فراشة فقدت أزهار الربيع، من كل دفتر وكتاب تطايرت أوراقه، من كل رغيف خبز امتزج بدماء الأطفال، من كل حبة تراب تلوثت برائحة الفوسفور والبارود». ويتابع: «من خلال هذه اللوحات التي اعتبرها جزءاً مني لم أرسمها أنا ولكن رسمها أطفال ونساء في وطني يعانون كل أنواع القتل والاضطهاد منذ سنوات. كل لوحة فيها رسالة من سورية الجريحة، وطني الذي لم يغادر قلبي، لم يغادر دمي ولا شراييني، فهو يسكن داخلي وأنا أسكن في معتقله الكبير».
يثابر الفنان على تحدي ذاكرته المثقلة بالظلم والاضطهاد- شأن غالبية السوريين- وتحدي حالة اللجوء والموت في عالمه الجديد المفتوح والمأسور بالجراح والذكريات، والانتقال بها إلى حالة التحدي وفتح نافذة على أفقه الإنساني متسلحاً بريشة وألوان على أمل بأن يحل السلام في وطنه.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى