كاتبات جزائريات يختفين ليمتن!

سعيد خطيبي

أسبوعان يمران ـ اليوم ـ على رحيل الكاتبة الجزائرية ديهية لويز(1985-2017). موت باغتها وباغت من يعرفها. موت لا جدوى منه، أو هو موت جاء ليكمل ما لم يُكتب أو ما عجزت عن كتابته. أليس الموت نفسه رواية أيضاً؟ لقد كتبت ديهية لويز(اسمها الحقيقي لويزة أزولاق)، وانتصرت على الصّمت والخنوع، كتبت عن جسد يسكنها، عن اخفاقات ربيع أمازيغي مُجهض، انتصرت بالأدب على الرّوايات الرّسمية، لكنها أخفقت في المواجهة الأخيرة، الأكثر صرامة وقساوة، ضدّ الموت. كما لو أن الموت يأتي ـ فقط ـ ليذكّرنا بالنّهايات، بالحتميات، يصدمنا كي يثبت حضوره، كلّما نسيناه، يأتي كي يعزّز ثقتنا في الكتابة وشكّنا في الحياة، التي سينقطع حبلها مهما طالت. الموت لا يؤمن بأجندة ولا يحمل مواعيد معه، هو لحظة الوحشة والتّعثر والسّقوط، التي غالباً ما نغضّ الطّرف عنها، هو بوصلة نسير نحوها دون أن ندري، ولأن لا مفرّ منه، سيكون مهماً أن ننساه، ونتوقّف قليلا عند الأقدار العسيرة لكاتبات جزائريات، اختلفن في كتاباتهن، في وجهات نظرهن، في أسمائهن، في مولدهن وفي عقائدهن، لكنهن اتّفقن على شيء وحيد: جمعيهن اختفين ليمتن! كنّ ميتات أحياء، نال منهن موت رمزي قبل أن يصل إليهن الموت الحقيقي.
«امرأة تكتب هي امرأة تزن باروداً» هكذا كتب كاتب ياسين، في توطئة رواية «المغارة المتفجّرة» (1979) ليمينة مشاكرة (1949 ـ 2013). كتب تلك العبارة الشّهيرة، التي صار كثيرون يتداولونها في غير سياقها، وهو لا يعلم أن الجزائر ستتغيّر كثيراً في السّنوات اللاحقة، لأن «بارود» الكاتبة سينفجر في وجهها، سيكون سبباً في عزلها، في اختفائها، ولم ينفجر في وجه خصومها، لأن الرّوائية يمينة مشاكرة، التي لم تكتب طوال حياتها سوى روايتين، فصلت بينهما ثلاثون سنة (الثّانية «آريس»، 1999)، جعلتا منها واحدة من أيقونات الأدب النّسوي، في البلد، وفي شمال إفريقيا إجمالاً، ماتت، قبل عشر سنوات، من موتها الحقيقي، حين وجدت نفسها نزيلة مستشفى أمراض عقلية، مُستبعدة، وحيدة ومنفية، بلا صوت وبلا قدرة على تذكــــير النّاس بصفتها وبكونها كاتبة، بلا قــــــدرة على مواصلة القراءة أو الكتابة، وجدت نفسها على سرير مرضى، لا أحد ينتـــبه إليهم، بعدما كانت، هي نفسها الطّبيبة والمختصّة في علم النّفس العيّادي.
وحين ورد نبأ موتها، قبل أربع سنوات، تلقته الجرائد كما لو أنه أمر متوقّع، خبر عادي مثل أخبار يومية أخرى، فالكاتبة في الجزائر مصيرها أن تختفي لتموت، كتبوا، في اليوم الموالي، في رثائها، لكن لا أحد طرح السّؤال الأكبر: لماذا ماتت قبل أن تخرج روحها من جسدها؟
يمينة مشاكرة هي نموذج من عشرات الكاتبات الأخريات، اللواتي سقطن من الذّاكرة – عمداً – وعن سبق إصرار، دُفنّ وهنّ أحياء، هي واحدة من عشرات الكاتبات، وجدن أنفسهن في ركن قصيّ من التّاريخ، مُهملات، غير مرغوب فيهن، مرغمات على الصّمت، مُجرّدات من سلطتهن الأدبية، ومن حقّهن في الكتابة. من ما زال يذكر عائشة لمسين وروايتها المهمّةّ «شرنقة» (1976) التي ترجمت لعدّة لغات، لكن لم تضمن لصاحبتها عيشاً نقيّاً، ولا عمراً أدبياً، بل زادت من وحدتها؟ ومن يذكر حواء جبّالي؟ التي كتبت في الرّواية والسّينما والمسرح وفي أدب الطّفل، لتؤسس عزلتها، وتعيش بعيداً عن الأعين وعن قراء كانوا يتابعونها ثم تنكّروا لها، أو من يذكّر ـ اليوم ـ زوليخة بوقريط، التي نشرت «جسد مفتّت» (1977) من دون أن يهتم أحد بتدوين أدنى معلومات بيوغرافية عنها، أو مريم بن هايم (مريم بن)، التي عاشت مُناضلة وطنية، كاتبة وموسيقية وفنّانة تشكيلية، ولم تستطع حتّى أن تجد طريقا لمخطوطات لها، ظلّت في الأدراج، ولم تنشر، هكذا هو قدر كاتبات جزائريات، مُحاطات بغشاء سميك من نكران بلد لهن، يعشن منفى مضاعفا في الحياة وفي الأدب، موؤدات رغم كلّ ما كتبن، مُرغمات على تقبّل خيباتهن وخساراتهن، على خفض أصواتهن، وعلى الانحدار – من دون مقاومة – إلى عزلتهن.
هناك من الكاتبات من تصالحت مع الموت، مبكراً، وجلسن في انتظاره من دون مقاومة أو ربما جرّدن من أدوات مقاومته، وهناك من ذهبت إليه بشجاعة، مثل صافية كتو (1944-1989)، التي لم تحتمل العزلة التي دُفعت إليها، لم تزدها الكتابة سوى انسحاب من واقعها، ورمت نفسها من جسر، منتحرة. باختيارها الانتحار، كانت صافية كتو (اسمها الحقيقي زهرة رابحي) تخبرنا بشيئين: أن الكتابة لم تنفعها بشيء، في الجزائر، وأن الموت هو الأمل المتبقي، فهو ليس سوى فصل من فصول الحكي والشّعر، وهي التي عاشت شاعرة وقاصّة.
هكذا إذن تتعدّد ميتات الكاتبات الجزائريات، يتحوّل الوطن – بالنسبة لهن – إلى ساحة واسعة من معاركة الذّات، ومن هروب من الهاوية إلى هرولة إليها، وهناك من الكاتبات من قتلتهن «الهوية»، كاتبات متن لأنهن لا ينتمين للغالبية، ولم يشاركن في حفلات الشّعبوية السّائدة، من بينهن إليسا رايس (أو روزين بومنديل، 1876-1940)، وهي تاريخياً أوّل امرأة روائية في الجزائر، صدرت أول أعمالها عام 1919 (سعادة، المغربية)، وتواصلت نصوصها مع «ابنة الباشاوات» (1922)، «الأندلسية» (1925) و»أطفال فلسطين» (1931)، لكنها غُيّبت، من التّاريخ الأدبي في الجزائر المستقلة (أي بعد 1962)، محي اسمها وأخفيت كتاباتها، بسبب أصولها اليهودية، تماماً مثلما حصل مع القاصّة طاووس عمروش (1913-1976)، التي عاشت عزلة وتهميشاً، بسبب اعتناقها المسيحية. الكاتبتان وقعتا ضحيّة الشّعبوية، وفي فخّ الهوية الجزائرية المفتّتة والمشتّتة، اللتين يستر بهما المجتمع في الجزائر عورته، لم يُقرأ لهما ككاتبتين، بل «قتلتا» رمزياً، لأنهما تنتميان لهوية دينية تختلف عن هوية الغالبية.
المرأة في الجزائر تكتب لتجد سبباً للموت، لتبرّر اختفاءها وغيابها، لتعلن انسحابها، لتوسّع من حدود عزلتها، ورحيل ديهية لويز، يذكّرنا بهذه الأقدار الموجعة، والاستثنائية لمواطنات لها سبقنها في الرّكض نحو الضّفة المتوحّشة، ضفّة الصّمت المفروض عليهن، القهر الاجتماعي، النّكران واللامبالاة، الذي يتعرّضن له طوال حياتهن الأدبية. الكاتبات في الجزائر يكتبن لينلن عكس ما ينتظرن، يختفين ليمتن كما لو أنهن يُداوين أنفسهن بالموت، يستعن به لتخفيف آلامهن، وللتّقليل من وطأة اللاعدالة التي يعشنها. وبعد كلّ ميتة لكاتبة جزائرية هناك حياة أخرى تنفتح، ببطء وخجل، حياة مُوازية، قد يسمعن عنها في قبورهن، سيتذكّرهن البعض وربما يقرأون ويعيدون القراءة لهنّ، ليس محبّة لهن وللأدب، بل فقط لاستحضار مصائرهن السيزيفية، كما لو أن الكاتبة الجزائرية لا تثبت وجودها سوى بعد رحيلها. وسيكون من المثير للرّدود والانفعالات والمرثيات أن يكون رحيلاً موجعاً، وليس عادياً! من الظّاهر أن أشياء كثيرة تغيّرت في الجزائر، وأشياء أخرى ستتغيّر، في يوميات النّاس وطباعهم، لكن أشكال موت الكاتبات بقيت وستبقى واحدة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى