عنف المستعمِر ووعي التاريخ في «رفان حبيبتي» للفرنسي فيكتور مالو سيلفا

عبد الحفيظ بن جلولي

تعتبر القراءة في رواية الفرنسي فيكتور مالو سيلفا «رفان حبيبتي» فيكتور عودة بالوعي إلى فضاء التاريخ وإدراك أهميته بالنّسبة لاستمرار الذاكرة، ولعل الاستعمار من أقسى التجارب التي تعرّضت لها الذاكرة الوطنية، ولهذا نتكلم عادة عن طيّ صفحة الماضي، هذا ممكن جدا، لكن ما لا يمكن أن يحدث هو تمزيق الصفحة لأنّها حياة الذاكرة والأمم، ولا يمكن لذاكرة أن تستمر دون أوراق ماضيها.
إنّ العودة الى التاريخ ليست ترفا فكريا ولكن معلما يكرّس لبصمة الذّات في مهرجان حركة الأمم، ونحن، مما هو ظاهر كأمّة لا نعتني بالتاريخ ولا بالذاكرة، فما نقرأه من مادة تاريخية، جله، كتبته أقلام أوروبية، كروجيه أجيرون، بنجامان ستورا، شارل أندري جوليان، إيف كورييه وآخرين، ومشكلتنا أنّنا نتداول في المحافل العلمية سؤال المدرسة التاريخية الوطنية ولا نهتم بنتاجات المؤرخين الجزائريين الذين تتضمّن كتاباتهم رؤية للتاريخ والوطن في حركيته الوجودية، فنحن كذات وطنية ووعي تاريخي نهمل أبو القاسم سعد الله، أحمد توفيق المدني، يحيى بوعزيز وغيرهم، ولهذا نهمل الطريق إلى وعينا وذواتنا.

رواية «رفان حبيبتي» كمرجعية تاريخية:

تعمل هذه الرواية التي ترجمها الجزائري السعيد بوطاجين على نبش الذاكرة وبعثها من خلال السارد «لوي روني» الذي يتأسّس بداية كسارد واقعي، ثم يتحول إلى سارد تخييلي مع أول رسالة يبعث بها إلى حبيبته «هيلين»، الانتقال سرديا من الواقعي إلى التخييلي يعبّر عن هول المأساة التي تعرّض لها أهالي منطقة رقان والتي لبشاعتها وإجراميتها تحتار الفهوم في إدراك طبيعتها هل هي من الواقع أم من الخيال؟
تفتتح هذه الرّواية بالمقطع التالي: «لن تستطيع الكلمات التعبير عن ذلك، قلت لزوجتي: أتدرين إنا قتلنا ناسا هناك، بيد أنّها كانت تعرف ذلك من قبل ونامت، أكنت مخطئا لأني رغبت في الحكي بعد سنين مديدة». «لن تستطيع الكلمات التعبير عن ذلك»، لأنّ الكلمات سوف تفضح الذاكرة، والمستعمر ليس لديه ما يقوله من خلال الكلمة سوى الاعتراف بجرائمه الوحشية، أو الكذب على التاريخ والإنسان والحضارة، فالكلمة أقوى منه لأنه غير إنساني، الكلمة موقف لإدارة الحالة الإنسانية على ساحة الوجود، فـ«الكلمة نور وبعض الكلمة قبور» كما يقول عبد الرحمن الشرقاوي في رواية «الحسين شهيدا»، وفي البدء كانت الكلمة كما ورد في الكتاب المقدّس، والكلمة أيضا ليست فعلا، كما قال سعد الله ونوس، لكنّها تقع بجوار الفعل في أهمّيتها، أو إنها تحتاج إلى الحقيقة المرافقة لها على الدوام لكي تكون إنسانية، لهذا لا يمكن للمستعمر الذي يدير التوحش والفظاعات الإنسانية أن يقع تفكيره ووعيه على ضفاف نورانية الكلمة. «قلت لزوجتي أتدرين إنا قتلنا أناسا هناك، بيد أنها كانت تعرف ذلك من قبل ثم نامت»، لابد للوقوف عند موضوع النوم، حيث ورودها يكشف قصدية عميقة وجوهرية في مسار حركة المستعمر الجهنّمية واللاإنسانية، فالنّوم هو انفصال لحظي عن استمرار الحياة، وهو ما يعني في الرّواية انفصالا شعوريا لزوجة السّارد عن المستعمر، الذي يمثل كل القيم اللاإنسانية والمتوحّشة، أيضا، من اللواحق الدلالية للنّوم، الحلم، فالإنسان لا يحلم إلا بكل ما هو جمالي وإنساني، ولهذا لا يمكن أن يحلم بما هو عكس ذلك، أي أن زوجة السارد لم يكن في مقدورها تصوّر ما وصل إليه المستعمر من مستوى في التوحش.
تعبّر الرواية عن الذاكرة في مفصلها الاستعماري الذي صمتت كثيرا عن كل ما ألحقه بالمستعمَر: «أكنت مخطئا لأني رغبت في الحكي بعد سنين مديدة»، هذه الوحدة السردية تفضح المستعمِر من خلال ما يتراكم في الذاكرة من مشهديات حزينة وفظيعة، وهذا ما يجعلني أحيل إلى جلاد المستعمر بول أوساريس الذي قتل العربي بن مهيدي، والمحامي علي بومنجل والمناضل الفرنسي موريس أودان، الذي يعترف بكل وقاحة في مذكراته: «شهادات حول التّعذيب: مصالح خاصة 1955/1957» بأنّه غير نادم على ما ارتكبه في الجزائر إبّان الفترة الاستعمارية من تعذيب لأنه كان يقوم بواجب وطني، لكن الصحافي شارل دينيو في كتابه: «حقيقة موت موريس أودان» يروي أن بول أوساريس أسرّ إليه وهو على فراش الموت: «لا موريس أودان لم يتبخّر هكذا من الطبيعة بعد هروبه من السجن في يونيو/حزيران 1957 لكنه أعدم بقبول ورضا تامّيْن من السلطات السياسية»، هذا الاعتراف يكشف كيف أن بول أوساريس الذي عذّب الجزائريين وسامهم نيران التنكيل، أراد في أواخر أيامه ان ينفّس عن ذاكرته التي ظلت تؤرقه وتنغص عليه عيشه، لأنّ ما قام به كان فظيعا ويعبّر عن جرأة عجيبة لفرنسا في إدارة التوحش واللإنسانية.

تفكيك إشكالية العنف الإستعماري:

التخييل حالة فوق جسدية، فوق واقعية، لذّة روحية، أو هو «ضرب من التحويل يحرّرنا من إحساسنا العادي بالعالم»، كما يقول غاستون باشلار. الإنسان لا يتخيل لكي يغيب عن العالم، بل لكي يسجل حضوره الإنساني المتعالي في العالم، كونه يستشرف عن طريق الخيال عوالم عديدة تسمح له بتفعيل كمونه المتوافق وطبيعته القادرة على التحليق في ما فوق الجسد. تفاجئنا الرّواية في مقطع منبجس من الحسرة بغرابة في واقع المستعمِر: «اكتشفت بعد شهور قضيتها معهم أنّ المسألة قد تتعلّق بفقدانهم الكلّي للخيال». لا تقدّم هذه الوحدة السردية حقيقة فقط حول طبيعة المستعمِر العنفية، بل تحلّل كيانيا وجودية المستعمِر كذات مهيمنة، فالمستعمِر بطبيعته التحتانية لا يمكن أن يفكّر في المتعالي، الفوقاني، إنّه مندمج في العادي والاستهلاكي، وكل ما يتيح له فرص وطرق الهيمنة، ولهذا يهدف على الدوام إلى الاستيلاء على مقدرات الشعوب والجغرافيا وحتى التاريخ (الجزائر وفلسطين).
التخييل في رواية «رفان حبيبتي» يكتسب أهمية جوهرية من حيث يمكّننا من التمييز بينه لدى المستعمِر والمستعمَر، فلدى الأوّل عجز التخييل ينعكس على كيانيته الإنسانية كذات فاقدة للرؤية الفوقانية، أما عجز التخييل لدى الثاني فيتأسّس إنسانيا لصعوبة تصور إمكانية حدوث الوحشية التي يراها تنبعث من لدن إنسان يدّعي الإنسانية.

ألف ليلة وليلة/التلازم بين الهيمنة والضعف:

لا مفر في حقيقة الأمر للمخيال الأوروبي من الولع بالمخيال العربي، القائم على فانتازما التهويم التاريخي، المبتكر من خلال السّرد العجائبي الموسوم بالتأنيث والجرأة الشهوية التي تأخذ إلى عوالم المرتجى والمرغوب الغربي في تصوّراته الفانتازمية عن العرب، ومن هذا الباب لا تكاد تخلو الكتابات الإبداعية والفكرية الغربية من الإحالة إلى «ألف ليلة وليلة»، ولعل الجملة السردية: «وكان معجبا بسرد وقائع الليلة العاطفية التي قضاها حسب زعمه في بلاد أعمر»، تحيل إلى ألف ليلة وليلة، لتلازم المعنى في «وقائع الليلة العاطفية»، والإحالة إنّما تتأسس عند العنفية المتلازمة أيضا بين الشهريارية المهيمِنة والمستعمِر والشهرزادية الضعيفة والمستعمَر، وقوة شهرزاد إذ نسجت من الحكي (النص) سلاحا لإنقاذ بنات جنسها من الهيمنة الذكورية القاتلة، تماما كما حرّر السرد والتخييل الاعترافيين الذاكرة الاستعمارية من إحساسها المستمر بالجريمة في حق الشعوب التي وقعت تحت نير ظلمها، وأيضا حرّر السرد الوعي لدى الشعوب المستعمَرة من ضغط العبء المعنوي للقهر الاستعماري، فالرواية بطريقة أو بأخرى حوّلت «الليل الاستعماري» إلى ليل استناري سمري انطلاقا من الهامش التخييلي الذي توفّره الرواية لتقديم الحكاية الإنسانية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى