آمال المثلوثي … صوت «الربيع العربي» في بيت الدين

منال نحاس

«قَدّيش ناس تهجرت… قَدّيش ناس انسرقت… قَدّيش ناس انقتلت… قديش ناس غرقت بالفلوكة… قديش ناس انظلمت… قديش أفكار انردمت… قديش أيام راحو… قدّيش»… بصوت تلفه اللوعة والتفجع، أهدت التونسية آمال المثلوثي في حفلة أقيمت ضمن مهرجانات بيت الدين هذه الاغنية الى أطفال سورية. والمثلوثي هي صاحبة أغنية «كلمتي حرة»، وهي من اغانٍ أرهصت بالربيع العربي منذ العام 2008.
لُقّبت المثلوثي بـ «صوت الربيع العربي» إثر ذيوع هذه الأغنية في بلدها واضطرارها، شأن غيرها من المغنين التونسيين الشعبيين الذين اختاروا النضال السياسي- الغنائي، الى سلوك طريق المنفى في 2008، بعد بطش نظام زين العابدين بن علي في قمع تظاهرات منددة بالفساد. فمحبو الموسيقى كانوا في تونس ومصر وغيرهما من البلدان العربية أسرى خوف الاعتقال. وكان الشباب المغني يحيي حفلات صغيرة وراء أبواب مغلقة، كأنهم «خلايا نائمة» من المغنين.
غنـــاء المثلوثي متّقد يشبه التضرع وهي ترفــــع اليدين والرأس الى مكان أرفع، والألم يعتـــصر قلب السامع ويعمه شعور بالعدم والعبث: «في كل يوم يجر الربيع قلبه مثل أنشودة ويموت. في كل يوم تخطف الحياة منا أملاً جديداً ونبكي الفراغ. في كل يوم تغيب روح في كهف الحياة. واقع العيشِ. فلماذا نسير؟ أليسَ المرُّ محتوماً علينا، في كل يوم تكشف الحياة سراً وتهدينا نوراً يغرق الغيوم… في كل يوم تشرق شمسٌ». فيصيب واحدنا ضيق تساؤل وجودي أليم على وقع ألحان تجمع موسيقى التكنو الالكترونية على وقع آلات الإيقاع، الى موسيقى بدوية. ويخال المستمع انه في معبد أسطوري من أيام غابرة. فالمغنية تلاعب حركة الضوء بيديها كأنها تقيم طقساً شعائرياً، وتتحرك حركة بطيئة كأنها دمية انبعـــــثت فيها الحياة، وتناجي الكون كله بعويلها البديع، وهو عويل من غير بكاء يشبه الأنين ولكنــــه ليس بأنين. فغناء آمال المثلوثي نابض بالحـــياة ودبيب القوة يسري فيه. وهي تنتقل من العربية الفصحى والعامية التونسية الى الانكليزية، ومن العربية الى الاسبانية ومن هذه الى العــربية، انتقالاً سلساً يخال المرء معه أنه أمام لغة كونية تتوجه الى حواسه ووجدانه.
استهلت المثلوثي العرض بأغنية «قومي طلعي عل بال» (طلال حيدر) بصوت أوبرالي ساحر وأخاذ، ويُطرب حين يصدح، فيشعر السامع بأنه دخل عالم الاساطير والعشق واللوعة والفقدان والخسارة. ثم انتقلت الى ما يشبه الموال بالانكليزية وهي تنشد أغنية جيف باكلي «نيو ييرز براير» (صلاة رأس السنة): «لا تشعر بالحرج مما أنت عليه، اشعر كما تشعر المياه المنهمرة، قف (بعد تبرئتك) وراء الكرسي الكهربائي وأنت ترقص ما وراء الصوت الذي في الصوت».
وأغنية «ثملةُ الدنيا» كانت بمثابة أنشودة حياة تُشعر المرء بأنه في حلقة زار على وقع إيقاع طبول موسيقى قبائلية على الطبل والدف وآلة النقر والموسيقى الالكترونية. فإيقاع الاغنية «المثلوثية» عابر للأنواع الموسيقية، هو إيقاع موسيقى الـ «هارد روك» والـ «هيفي ميتل» والراب واللحن البدوي وموسيقى شرقية، في آن واحد. ويخال المرء في بعض اللوحات أن الموسيقى تنبع من يديها كأنها صاحبة قوى ما ورائية، وصوتها صوت عالم رملي فتتلوى موسيقى عربية مع صوتها على وقع نبضات موسيقى الإلكترو الراقصة.
كأن آمال المثلوثي مغارة أصوات يتردد فيها صدى وديان وصحارى وغابات. ففي أغنية «أنا غريب في هذا العالم» (كلمات جبران خليل جبران بالانكليزية)، غناء المثلوثي من بنات غابة مسكونة، فصوتها مثل همس وحفيف (الأفعى وصوت جناحي الطائر)، ومثل جوارح الليل (البومة)، واللهاث، فكأن الغريب والوحيد غارق في عالم قاسٍ ومقفر. وموسيقى الاغنية مثل دوامة. تارة، تبدو المثلوثي مثل درويش متصوف تدور في ثوب أبيض زاهد شكله مثل جرس، وتارة أخرى تشبه دمية على شكل راقصة باليه.
والى الغرباء في العالم، غنت المثلوثي أغنية أهدتها «لمن لا نراهم» مستوحاة من أغنية سيرج غينزبور «بلا ملجأ».
الجمهور في بيت الدين لم يرغب في مفارقة المثلوثي حين أعلنت أنها شارفت ختام الحفلة، وبدأ بعضهم يطالب بأن تغني «كلمتي حرة». فحملت المغنية – العازفة غيتاراً، وردد الجمهور معها قبيل ختام عرضها كلمات «انتي حرة»: «أنا أحرار ميخافوش/ أنا أسرار ما يموتوش/ أنا صوت اللي ما رضخوش/ أنا حق المظلومين/ أنا حرّ وكلمتي حرّة …». وسرت حماسة في الجمع، فعلا التصفيق وبلغ التفاعل مبلغاً حمل آمال على خلع حذاءيها لترتاح، وأنشدت بضع أغانٍ، منها أغنية اسبانية مهداة الى فلسطين، وأخرى تونسية.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى