صهيل من فلوات الأرواح: عندما يصبح الشعر رسولا للإنسانية

إن الاختلافات بين تجربتي هذين الشاعرين على درجة كبيرة من الاتساع. غير أنها تخفي في الوجه الآخر من الصورة عناصر اشتراك ألخصها في ابتلائهما بهموم الإبداع الشعري، وهواجسه، والتحاقهما تلقائيا بقافلة الشعراء، واتخاذهما معا العربية لغة الكتابة. ويشتركان فيما هو أهم، بالنسبة إلي، ألا وهو انتماؤهما إلى الإنسانية.

وفي ضوء هذه الثنائيات التي ذكرت البعض منها يُمكن أن نلمس خصوصية هاتين التجربتين، والتي أراها متمثلة فيما يلي:

الشعر عند الشاعرة الدكتورة كريمة نور عيساوي تجربة أنثوية بكل ما يحمله الانتساب إلى جنس المرأة من انكسار وقمع واضطهاد وانكماش وتقوقع على الذات وحلم وأمل وتمرد. وحتى حينما تحجب مؤقتا ذاتها المنكسرة لمعانقة هموم ورعب وهلع الآخرين من الحرب فإنها تُلون هذه المشاهد بقبس من كتاب الذات “رقصة الألم، ملهى الأموات. …”، ويتداخل ما هو ذاتي بما هو موضوعي بحيث يصعب التمييز بينهما. وتهيمن على نصوصها نبرة تشاؤمية.

هناك حنين إلى الماضي “الطفولة المنسية، حمل السجادة ورحل، أمي النخلة…”. غير أنها لا تلتقط من هذا الماضي إلا بضعة صور سوداوية تكبر، وتسيح وتتمدد كبقعة زيت في ماء عذب، الماضي حلم مزعج يطل عليها من كوة الذاكرة الموشومة بالألم. الحاضر مثقل بهاجس الرحيل والعشاء الأخير رضاب الهزيمة. والمستقبل المنشود والمتخيل يقتله الانتظار والترقب امرأة استثنائية. وقد استطاعت أن تُعبر عن هذه الهواجس كلها في قالب شكلي متميز قوامه اللغة الساحرة التي تُذهلك بنقائها، والصور غير المنتظرة والمتناسلة التي تشدك إليها شدا، والتي تأسرك بطوقها فلا تستطيع منها فكاكا، وتنعم بتذوق طُعم الأسر.

أما الشعر عند الشاعر خالد ديريك فهو تجربة رجل صلب شاءت الأقدار أن يكون ضحية واقع متأزم. ومن هنا نقف على تعارض لا تخطؤه العين ما بين تمسكه الشديد بالأرض الذي يصل إلى درجة التقديس، خاصة حينما أصبح بعيدا عنها، وحرمانه المطلق من الهوية حينما كان جزءا لا يتجزأ منها (أنا المنسي…. مرمي أنا). فما أصعب أن يلفظك وطنك.

والأمر لا يقف عند هذا الحد، بل يتعداه إلى تصوير مشاهد حية من الطغيان والتسلط والقهر التي لم يرسمها بخياله الخصب، وإنما استعادها من ذاكرته المثخنة بالجراح (من الغربة إلى الديار…. أنا اليتيم المتمرد).

ذات الشاعر تذوب في الجماعة (معتقل أنا)، والجماعة هي الشاعر خالد ديريك في صيغة الجمع. كلماته تمتح من قاموس القهر ومرادفاته، وتخلط في وئام تام ما بين الطبيعة ووجهها المليح والحرب ومآسيها.

إن شعره يعكس بوضوح هذا التمزق. وصوره كلها مجتزأة من تجربة حياة مريرة. لهذا ليس غريبا أن تطغى عليها نفحة المباشرة.

جملة القول إن هذا الديوان المشترك جدير بالقراءة لأنه يفتح أمام ناظرينا نافذة نُطل من خلالها على عالم يعج بالأسرار، ويحفل بالألغاز، يتعايش فيه الألم مع البهجة، والحب مع الكراهية، عالم ملتبس تخوض فيه الذات حربا على الذات، وتوجه فيه فوهة البندقية نحو جبهة الآخر لترديه قتيلا باسم مرض مزن اسمه الكراهية.

هذا ما دبجه يراع الدكتور سعيد كفايتي، في جزء من مقدمة طويلة للديوان المشترك: “صهيل من فلوات الأرواح” الذي جمع بين الشاعرة المغربية الدكتورة كريمة نور عيساوي والشاعر السوري خالد ديريك. وهو من منشورات ديهيا أما غلاف الديوان فكان من توقيع الفنانة التشكيلية المغربية زكية مكروم، وقد سهر على إخراجه في حلة جميلة القاص المغربي الكبير محمد العتروس.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى