خلخلة المألوف في ديوان «ولاعة ديوجين» للمغربي عزالدين بوركة

عبد الرحيم التدلاوي

تعد المجموعة الشعرية «ولاعة ديوجين» عملا نوعيا إذ ييتجاوز المتعارف عليه، ويخلخل ثوابت التلقي لدى القارئ، ويحلحل ما استقر في ذهنه، وذلك باحتفائه بالمهمش والمقصي والمبتذل، يعيد إليه جماله المفتقد، وألقه الذي بهت بفعل التكرار والتداول. إن الشاعر يؤسس لجمالية مغايرة تعيد لليومي والعادي بهجة حضوره.
ونحن نتوغل في أحراش القول الجميل، ينبغي أن نستخرج من النصوص ما يسند الادعاء، ويقوي جانب التميز. ولكن، قبل ذلك، ما الجامع بين كلمتي العنوان؟ وما العلاقة بينهما وبين الشاعر؟
كلمة ولاعة من فعل، ولع، وقد صيغت على وزن: فعالة، بشدة على العين، للتعبير عن اسم الآلة، ولأن ذلك الوزن يفيد الكثرة والمبالغة؛ فقد جاء اسم الآلة منه لكونه يقوم بفعل الإشعال مرات ومرات. والولاعة علبة صغيرة من معدن أو غيره، ذات أحجام مختلفة وأشكال متباينة، بداخلها بنزين، وفي رأسها فتيل يولع عند الضغط عليه. والفعل منها يدل على الارتباط والعشق والإغراء، والتعلق بالشيء وحبه.
أما عن ديوجين؛ فهو من أحد رواد المدرسة الكلبية التي تؤمن بأن الحكمة لا تتحقق إلا بالحرية، ما يدعو إلى تفكيك وهدم كل القيم والأعراف، والأنساق الأخلاقية التي تقيد الإنسان.
اتخذ برميلا مسكنا له، وجاب أزقة أثينا حافي القدمين، وأوقد قنديله نهارا بحثا عن الإنسان؛ إنه رجل يخرق المألوف، والمتعارف عليه، ويصدم بتصرفاته أخلاق الناس الزائفة. من هنا كرهه لرجال السلطة والأثرياء. ثار ضد الحضارة والدين والأخلاق، والمجتمع و مؤسساته. بناء على ما سبق، يتبين التداخل والتكامل بين الولاعة والشخصية الأساس، أي ديوجين، فالولاعة تفيد حب الرجل للحكمة وسعيه لبلوغها، وفي الآن نفسه، تفيد الإشعال بقصد حرق كل ما هو ضد الإنسان، والثورة على ما يقف في وجه حريته، أخلاقا، ودينا، وأعرافا، وحضارة ومؤسسات.
وعن الشاعر، يمكن القول: إنه ديوجين عصره؛ فـ»بوركة» المهتم بالجماليات، من الشعراء المغاربة المتمردين المتميزين فنيا بأسلوبه المتميز ولغته الاستثنائية وقاموسه المتفرد الذي أعطى للديوان نفسا وروحا متجددة ساعدته على الغوص عميقا، لكن بشفافية مرهفة في الأبعاد الفلسفية والإنسانية بصفة عامة، بعمق معنوي متوهج وشفيف على الرغم من قصر القصائد ففيها تكثيف للمعنى وإيجاز لا يتقنه إلا شاعر مرهف. إنه شاعر يرفض المهادنة لأن المهادنة تعني الخنوع والتكرار ومسح البصمة الشخصية، ووأد لجمالية الاختلاف.
وعمله الشعري هذا، وإن اتسمت جل نصوصه بالقصر، إلا أنها جاءت حافلة بالمعنى، متدفقة بالجمال، مفتوحة على القراءات المتعددة لكونها ذات سمك دلالي بين، ولأنها متحت من معين الفلسفة اليونانية من جهة، ومن نبع الصوفية من جهة أخرى. يقول في هذا الصدد: «أما عن الفلسفة اليونانية فإنها حاضرة في تجربتي الأخيرة في ديوان ولاعة ديوجين، كتجربة تمخضت عن طول قراءة لما تتمتع به هذه الفلسفة من مكانة في التاريخ البشري، فلا أظن أن شاعرا اليوم يمكنه أن يتحدث عن الشعر وكتابة الشعر، دون الرجوع إلى الفلسفة، والذي يعني بالضرورة الرجوع إلى الفلسفة اليونانية».
كل ذلك بلغة رقيقة الحواشي، تستمد نسغها من الرمز، وتحفل بماء الشعر مرة، وتحتفل بالتقريري الحاد مرة ثانية، دون أن يعني ذلك سقوطها في الجفاف؛ فالشاعر واع بما ينسجه إن على مستوى اللغة، وإن على مستوى التركيب، أو على مستوى الدلالة. فالشعر عنده أقرب إلى النبوة، بمعنى أن الشاعر راء، يمتلك قوة الإبصار، الشاعر صانع قوس قزح لا غير، إنه كنبي بلا نبوة. إنه فقط شاعر لا غير. وهنا مرتكز انتصاره للشعر وجماله. وليس بدعا، والحالة هاته، أن تكون بداية الديوان احتفاء بالشعر، لأنه البدء والمنتهى:
البارحة
قرأت كتابا عسيرا على
الهضم
لذا أكلت تفاحة من الشعر
الأخضر
ونمت.
الشعر أخضر يمكنه من تحقيق عنصرين أساسيين؛ هما تسهيل هضم العسير، وجلب النوم؛ إنه فاتح الشهية، والعنصر الأساس لكل معرفة، والطارد لكل كوابيس التفاهة وثقل الظل. الكتابة الشعرية بالنسبة له رفض دائم، ولا، مستمرة:
لكي تكتب قصيدة
يلزمك قول «لا»
في وجه «نعم»
وقول «لا»
في وجه «لا»
ويؤكد المعنى ثانية بقوله:
وما الكتابة إلا محو لما بين الآن وما سبق
أو إفراغ الجمجمة من الأسلاف.
فالكتابة محو مستمر، وتخلص من ضغط الأسلاف، وإكراهات التبعية. قصائد الشاعر تتميز بالنضج والدهشة في أنقى معانيها، بل هي اكتمال المعين الشعري، وهي قصائد الصمت الإيجابي، وميض برق خاطف في فضاء النص الشعري.
والكتابة الشعرية لديه فعل عنيف يروم الهدم والبناء، يقول:
وأن تكتب يعــــني أن تدق مهـــمازا في جمجمة اللغة
وأن تقرأ يعني أن تقتل بلا رحمة ولا شفقة كلمة يتيمة
وما العنف إلا أحـــــــد مبررات بناء الذات، وتأكــــيد فرادتها وخصوصيتها داخل المجتمع، وتقوية مكانتها الممـــيزة على مستوى المشهد الشعري.
على سبيل الختم:
قصائد الشاعر عزالدين بوركة شبيهة بلوحات فنية تحتفي بالألوان والظلال، تقيم حضورها الجمالي على جدلية الضوء والظل، إنها أشبه ما يكون بلغة الحلم؛ لذا جاءت اللغة في هذا العمل الشعري متخلصة من «حمولتها المعجمية، لكي تصبح معادلا موضوعيا للعالم والأشياء، بخلق مسافة جمالية حفظا لمجال الرؤية والكشف». وقد عبرت نصوصه عما يخالج ذاته عبر تراكيب لغوية ممزوجة بمفاهيم فلسفية منحتها عمقا وسمكا دلاليا.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى