عالم الصحافة السفلي في رواية «عياش»

أنطوان ابو زيد

ليست ربما المرة الأولى التي تنشر فيها دار الساقي عملاً روائياً من إنتاج محترفات الكتابة الروائية العربية، والتي كانت تتولاها تباعاً الروائية نجوى بركات، والروائي جبور الدويهي، وذلك بدعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون. بل إنّ هذه التجربة، أعني محترفات الكتابة الروائية أثمرت خمسًا وعشرين رواية متميّزة من تسعة بلدان عربية، على ما ورد في الصفحة 207 من الكتاب.
هذه الرواية الأخيرة ، والصادرة عام 2017، عن دار الساقي بعنوان «عياش»، هي للكاتب المصري الشاب أحمد مجدي همّام (1983) والذي كان قد نال جائزة ساويرس عن مجموعته
القصصية الأولى بعنوان «الجنتلمان يفضل القضايا الخاسرة»، وبصدد إنهائه روايته الجديدة «أنا في اللابوريا».
في البداية، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه الرواية صيغت للردّ على الأجواء البوليسية القامعة التي كانت قائمة إبان حكم حسني مبارك العسكري، بل المخابراتي. أما الشخصية المحورية فيها، عمر عيّاش، فقد جعلها الكاتب قريبة الى حدّ اللصوق بواقع الإعلام والصحافة المكتوبة في مصر(القاهرة ). هو، عنيتُ عيّاش، أديب في بداية مسيرته، يعتاش من الكتابة للصحف اللبنانية، ومن عمل متواضع في أحد متاجر المواد الكيماوية لصاحبه العجماوي، وتنقده أخته بطّة، المقيمة في كاليفورنيا بعضاً من الدولارات والمحفظات، ومقامر خاسر في خضمّ لنفاق الاجتماعي المتغلغل في طوايا النفس البشرية وفي مفاصل الحياة الاجتماعية المصرية. إلاّ أنّ نزعة الكاتب الواقعية التي رفدها بالحوارات المصرية القاهرية الدفاقة والدافئة في آن، لا أحسبها ذاهبة الى حدّ إثبات المرجع أو الواقع المحلّي المصري القاهري، على حدّ قول بول ريكور، دالاً على تصوّره الخاص(Quasi-monde)بقدر ما شاءه شبهَ عالم للعلاقات التي تحكم الأفراد والجماعات، والمصالح التي يمكن أن تؤاخي بين الاختلافات العرقية والاجتماعية والدينية والسياسية أحياناً. يعاود عياش الالتقاء بنورا، الشابة التي رافقته زمناً خلال التظاهرات المشهودة وسط ميدان التحرير، لإسقاط حكم الإخوان برئاسة محمد مرسي، ويستعيد لحظات من الشبق الجنسي التي جمعتهما: عياش بعد خروجه من مستودع العجماوي وانتسابه إلى جريدة «المواطن» محرراً، ثمّ رئيسًا للتحرير فيها، تتردد نورا الى منزله، هي المطلّقة والنازعة حجابها بعد خلافها مع أهلها، والمبتدئة في كتابة الشعر وتحبير المقالات، ويزداد حضورها في حياته حين يصاب (عمر عياش) بما يدعى طبياً بالناسور العصعصي، أو الالتهاب في أسفل الظهر، لدى مدخل الشرج، واضطراره الى إجراء عملية جراحية، تقعده في الفراش، فلا يجد من يعنى بتغيير الضمادات على جراحه سوى «نورا».
وقبل ذلك يكون عياش قد أثبت وجوده في الجريدة، وبات رئيساً للتحرير فيها بفضل حظوته لدى اللواء، والتقارير السرية التي كان يسطّرها بحق زملائه كاشفاً فيها عن ولاءاتهم وآرائهم التي لم تكن بالضرورة متناسبة مع نهج صاحب الجريدة أو مسؤول الأمن في الصحيفة.
ولا يزال عياش على هذه الهيئة والهيبة، في صحيفة المواطن، إلى أن يكشف أحدهم عن تقاريره التي كان يبعث بها الى اللواء، والتي كان ينقل فيها آراء زملائه وميولهم السياسية على
النحو الذي درجت عليه الأجواء المخابراتية في زمن غابر، كان الناس فيه أسرى لها وللسلطة من ورائها. عندئذٍ، يقرر اللواء أن يتخلّى عن مخبره مضحّياً به للحفاظ على سمعته، ويعيّن
بديلاً منه نورا جابر، حبيبته ومن كان يسعى الى الزواج بها. ويتبيّن من سياق تساؤلاته عمن يمكن أن يقدِم على خطوة فضحه، مرة واثنتين، أنّ نورا وليس ماركو القبطي المتواري لأسابيع عن العمل، هي التي وشت به لتبلغ ما بلغته، وتصير رئيسة التحرير.
في ما رسمه الروائي من ملامح الشخصية النموذجية هذه عياش: لقد رسمه بديناً، طويل القامة، نهمًا الى الطعام، شبقًا جنسياً مختلطاً بالكبت، محبًا المال يجمعه كيفما اتفق له، حيناً
بالعمل الحلال محبّراً المقالات في الجرائد اللبنانية، وحيناً آخر بالحرام تجسساً على زملائه، وحيناً بإعانة أخته له من كاليفورنيا، ويظلّ هاجس الكتابة غامضاً لديه. ولكن قد تتبدى للقارىء
هذه الملامح كلها عادية بل شائعة في ذلك العالم – وفي العالم المرجعي تالياً – بسبب تلك النظرة العدائية التي لا يني ينظر فيها الى المحيطين به، زملائه وأصدقائه القدامى وسائر الناس.
اللافت الثاني في رواية همّام أنّه لا يأنف من مقاربة عالم الشخصية السفليّ، بالتوازي مع انحدار القيَم الشديد بوضوح أبلق. ذلك أنّ إصابة عيّاش بالتهاب شرجي (الناسور العصعصي)
يكاد يكون استعارة للحالة القيَمية التي آلت إليها العلاقات، فباتت أدعى ما تكون وأقرب الى تلبية الحاجات البيولوجية القريبة (زواج أم عياش الثاني، الفيض من الكلام على الطعام والجنس، والشيكولاتة، ومعجم الأعضاء: الطيز، الشرج، الفلقة، الخصيتين)، بالتوازي مع معجم المال(الدولار، اليورو، الجنيه) الذي لا يخفي عيّاش حبه له (الدولار عملة أهل الجنّة).
ولربما كان هذا الاتّجاه إلى إيلاء القسم التحتاني من جسم الشخصية ردّاً على ما جهدت في إيثاره رواية السبعينيات (نجيب محفوظ، إدوار الخراط، صنع الله ابراهيم، وغيرهم) من حيث
عنايتها بالجانب النفساني من شخصياتها النموذجية، وكشفها عن دوافعهم العميقة الواعية وغير الواعية، والاكتفاء بالإيحاء بالجنس ومفاعيله من دون التجرؤ على ذكره بالاسم واعتباره
عاملاً حاسماً في تكوين الشخصية وتشريط تصرفاتها وتحديد مصيرها في آن.
الللافت الثالث في رواية همّام هو بالتأكيد اللغة الخفيفة، بل المخففة الى أبعد الحدود، نظير ما نراه في الروايات التوثيقية المعاصرة، أو تلك التي يعمل فيها الكاتب على إزالة كلّ أثر
من جماليّة نثرية أو بيانية من النص السردي أو الوصفي أو الحواريّ لئلا تسيء الى جمالية العالم السفلي التي ما ونيَ يظهّرها على امتداد الرواية. وفي ما عدا بعض الصور البيانية
الفالتة من عقال عناوين المشاهد الفرعية في الرواية (هبوني أموالكم…أهبكم روحي، شعرة من جلد الخنزير، مراسم الاستعباد، في الحفرة ، «الحياة بجرعات كبيرة « في اقتباس من عباس
بيضون، وغيرها)، يسلّط الروائيّ الكاتب كاميرته بالوضعية الأميركية (المقرّبة) على أشياء عالمه السفليّ، وبأسمائها، ربما ليُحدث في القارىء الصدمة الارتدادية المرجوة التي كان
لمح إليها في اقتباس لسيوران: «الواجب الأول عند الاستيقاظ من النوم هو الخجل من الذات» رواية «عياش» للكاتب المصري الشاب أحمد مجدي همّام تكشف لنا، نحن القراء، عن تجربة
أدبية واعدة وصادمة للقضايا التي تطرحها والأصداء التي تتركها في النفوس. وهي ليست بالأصداء القليلة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى