التشكيل في مصر: مبيعات بملايين الدولارات وسرقات لا تنتهي

شريف الشافعي

بملايين الدولارات تباع كنوز التشكيلين المصريين في أكبر المحافل الدولية والمزادات ذائعة الصيت لما تمثله هذه اللوحات والأعمال من قيمة وثقل في ميزان هذا الفن الرفيع، ولما تحمله من رصيد وتاريخ في الحركة التشكيلية العالمية منذ الحضارة الفرعونية حتى مرحلة النهضة الحديثة في القرن الماضي وما تبعها من تيارات طليعية مزجت ثمار التجديد بتمثل جذور الأصالة والتراث.

تلك هي المفارقة، حيث يواجه التشكيل المصري والفنانون التشكيليون، ومنهم الكثيرون المتحققون بالخارج، مآزق وأزمات متعددة على الصعيد المحلي إداريًّا وإجرائيًّا وترويجيًّا وتسويقيًّا، وعلى صعيد التقييم النقدي والتقدير المعنوي والمادي للفن والفنانين، بالإضافة إلى ضعف تأمين الأعمال الفنية ما أدى إلى تكرار وقائع السرقات والتهريب وشكوى فنانين كبار من سيادة مناخ الإهمال في قطاع التشكيل على وجه العموم.

آخر حلقات مسلسل سرقات المتاحف جرت وقائعها منذ أيام قليلة ولم يكن المراد سرقة لوحات في هذه المرة، بل تجاوز الأمر ذلك إلى محاولة سرقة تمثال “المعبودة إيزيس ترضع ابنها حورس” الأثري من متحف النوبة، وتبين أن الجناة، الذين تم ضبطهم بمساعدة كاميرات المراقبة، من موظفي المتحف.
المتأمل لوقائع سرقات المتاحف يلاحظ أن الاختراق يتم عادة عبر صفوف الموظفين والعاملين أو من خلال ثغرات إدارية تخص منظومة من الإجراءات البيروقراطية المتكلسة بين أروقة وزارة الثقافة وقطاع الفنون التشكيلية.

“الصلاة”، “بنت البلد”، “نبوية”، “الهجرة”، “زيارة القبور”، خمس لوحات للتشكيلي محمود سعيد جرت سرقتها في يناير الماضي من متحف الفن الحديث وفق آليات لم تخرج عن السياق ذاته الذي سُرقت به من قبل مقتنيات من متحف المنيا ومتحف محمد محمود خليل وحرمه.

لوحات محمود سعيد، أحد وجوه مصر المشرقة وصاحب الأرقام القياسية في المبيعات بالخارج، أهينت داخليًّا بسرقتها من خلال حيلة فجّة تكشف مناخ الإهمال المتراكم، فالجاني اعترف بعد القبض عليه بأنه تمكّن من دخول المتحف واستبدال اللوحات الأصلية بأخرى مقلدة بعد حصوله على تصريح يحمل توقيعًا مزوّرًا باسم الدكتور خالد سرور رئيس قطاع الفنون التشكيلية، يفيد بتسهيل مهمته لتصوير لوحات محمود سعيد.

على مدار العام الجاري 2017، وبعد هذه الواقعة، صوّب تشكيليون ونقاد سهامهم نحو وزارة الثقافة المصرية وقطاع الفنون التشكيلية وإدارات المتاحف مشككين في صحة بعض أعمال الرواد المعروضة في المتاحف ومطالبين بالجرد الشامل لتبيان ما هو أصلي من الأعمال وما قد يكون جرى استنساخه وتزويره، لكن لم يتم إجراء رسمي من هذا القبيل، بما يفتح الباب واسعًا أمام تساؤلات وتكهنات.

تعيد مثل هذه الوقائع المتكررة إلى الأذهان الفضيحة الكبرى في هذا المضمار والتي جرت في عام 2010، حيث سُرقت لوحة “زهرة الخشخاش” للفنان العالمي فان جوخ بأيدي مجهولين، ولم يتم الكشف عن الجناة حتى يومنا هذا، رغم توجيه عشرات الاتهامات إلى المسؤولين عن متحف “محمد محمود خليل وحرمه” وعدد من القيادات في قطاع الفنون ووزارة الثقافة.

وكانت قد جرت محاكمة وكيل أول وزارة الثقافة ورئيس قطاع الفنون التشكيلية الفنان محسن شعلان وأربعة مسؤولين آخرين بتهمة الإهمال وإهدار المال العام دون أن يسفر ذلك عن استعادة اللوحة.

“زهرة الخشخاش” رسمها الفنان فان جوخ في العام 1887 بألوان الزيت على القماش وتمثل مرحلة فريدة من محطات تحول التشكيلي الهولندي البارز، ويقدر ثمنها بحوالي 55 مليون دولار.

منظمة اليونسكو، بدورها، بعد تكرار عمليات التعدي على المتاحف بسرقة اللوحات الفريدة، والآثار أيضًا، هددت بأنه قد يتم حرمان مصر من تسجيل آثارها ضمن التراث العالمي. ومن أبرز وقائع السرقات السابقة كذلك ما حدث خلال أحداث ثورة يناير 2011 من السطو على المتحف المصري واختفاء 54 قطعة من مقتنياته وسرقة 7 قطع من متحف الفن الإسلامي في العام 2014.
مبيعات فائقة بالخارج

في حين يلقى الفن التشكيلي داخل مصر هذا الإهمال وهذه السلسلة من الانتهاكات فإنه يجد الحدّ الأكبر من الاحتفاء والتقدير في المحافل الدولية خارج مصر. فعلى الصعيد الرقمي تترجم الأعمال التشكيلية المصرية إلى ملايين الدولارات عند عرضها في المزادات العالمية الشهيرة، خصوصًا إبداعات الطليعيين والرواد أمثال محمود سعيد وحامد عويس وعبدالهادي الجزار وحسين بيكار وغيرهم.
منذ شهور قليلة بيعت لوحة “أسوان-جزر وكثبان” للتشكيلي محمود سعيد (1897-1964) في دار “كريستيز” بدبي مقابل 685 ألفًا و500 دولار، كما تجاوزت لوحته “استنبات الفن الحديث بالشرق الأوسط” 300 ألف دولار بعد عرضها في قاعة المزادات اللندنية “بونهامز”.

وكانت لوحته “الدراويش” التي بيعت في دار “كريستيز” بدبي حصدت حوالي 2.5 مليون دولار في 2010، وتم تسجيلها آنذاك كأغلى لوحة لفنان معاصر من العالم العربي والشرق الأوسط.

هذا التقدير المستحق لأعمال محمود سعيد صاحب “بنات بحري” و”بائع العرقسوس” و”ذات الرداء الأزرق” مبعثه تجربته الخاصة الفريدة النابعة من روح مصرية وصبغة إنسانية، فهو منسجم مع ذاته وواقعه المحلي، وتسجل أعماله إبحارًا استثنائيًّا في البيئة الأسوانية بجنوب مصر في توازن وتناغم بين هندسة الفن الفرعوني والطقوس الشعبية البسيطة وتجريد المتصوفة ورموز التاريخ.

“بونهامز” اللندنية كذلك شهدت في مايو الماضي بيع لوحة “النيل في أسوان” لمحمود سعيد بحوالي 227 ألف جنيه إسترليني، ولوحة “سلفي بورتريه” للفنان حسين بيكار بحوالي 161 جنيه إسترليني، وعدة إسكتشات فنية للفنان عبدالهادى الجزار حول “السد العالي” بحوالي 7 آلاف جنيه إسترليني.

دار “كريستيز” بدبي، بدورها، عرضت في فبراير الماضي، لوحة “أمريكا” للفنان حامد عويس بحوالي 250 ألف دولار، ولوحة بعنوان “نادي الألعاب” للفنان عمر النجدي بحوالي 70 ألف دولار.

يأتي الاحتفاء بالفنان حامد عويس(1919-2011) انطلاقًا من القيمة التشكيلية الكبيرة لأعماله ذات النزعة المصرية الصميمة، خصوصًا في تصوير الوجوه والحرف البسيطة التي تجسّدها لوحاته “صيادون من الإسكندرية” و”الأرض لمن يفلحها” و”المطرقة والوعي” وغيرها. وسرّ تميّز عويس استشفاف العلاقات الخفية بين الإنسان وما يمارسه من نشاط وما يخالطه من طقوس وكائنات، كما في لوحاته التي تجسّد علاقة الصيادين بالأسماك.

أما الذي يلقاه التشكيلي عبدالهادي الجزار (1925-1966) من تقدير في سائر المحافل فمرده إلى نبوغه المبكر وتجربته التصويرية المغايرة، إذ تمكّن بحسّ فطري من استلهام الأساطير والأحلام والتخيّلات المجردة لصياغة ملامح الحياة الشعبية بمصر بأسلوب مرن تخلص فيه من القيود الأكاديمية وأطلق العنان للارتجال والتلقائية.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى