«ابنة الجحيم» للتونسية خيرية بوبطان: رواية تستسلم لإغراء التفكير في الموت

رزان ابراهيم

«ابنة الجحيم» هي واحدة من روايات قليلة تنفتح على نغمة الموت لدرجة يصدق فيها ما قاله قديما أفلاطون: «إن الحكيم يعيش حياته متنبها للموت على الدوام». وما من شك في أن موقفا من الموت- شئنا أم أبينا- تدلل عليه الرواية يقودنا إلى معرفة علاقة الروائي نفسه بالعالم الظاهري، كما في سائر لحظات الوجود، بل يبدو للقارئ أن الكتابة في هذا المسار تشكل طريقة من طرق الرد على ضغوط الموت التي نعيشها يوميا، خصوصا أن وجودنا في حد ذاته مصحوب بحتمية الموت، بل يبدو لي من خلال ما تطرحه الرواية أن الانشغال الذهني في الموت ينبني عليه التزام أكثر جدلية تجاه الحياة نفسها، وهو ما يتكشف في نهاية هذه الرواية التي تجعل من الموت عاملا من عوامل فهمنا وتقديرنا للحياة، بل إن معانقة ولو متخيلة للموت تشكل فرصة ثمينة لرؤية حقائق الحياة.
تتمحور الرواية حول «أسماء» البنت التي فقدت أمها لحظة خروجها لحياة قاسية، تعاظمت قسوتها واشتدت بحضور» آسيا» السريع بديلا عن مكان الأم في البيت، بما خلف شعورا بكراهية ظلت «أسماء» طوال السرد الذي استفردت فيه تعبر عنه بالإحالة إلى هذه المكانة الخاصة التي احتلتها هذه المرأة في قلب الأب، الذي يحضر من منظورها أيضا بحنانه وعزلته وقسوته أحيانا. ما لبثت الرواية بعدها تتقدم بإيقاعات حركية سريعة، كما الشريط ينقل لنا حكايات من عوالم تتوالد فجأة، لتعود وتختفي من جديد، ما أفضى إلى ارتفاع وتيرة تشويش فرضت نفسها لزاما على القارئ، وهو يطالع عوالم متقافزة بين الحقيقة والوهم، وهي عوالم أدهشتنا منذ بدايات أطلت علينا فيها «أسماء» جنينا تحكي انحيازها للبطن الذي احتواها، إلى أن تأتي الأقدار ذات ليلة يتآخى فيها الموت والمطر وتحرمها أمها، لتظهر مع هذا التآخي كائنا فوق عادي، نرقبها بكثير من الدهشة وقد اتخذت قرارا واعيا بضرورة الصمت والعزلة والانفصال عن عالم لا يفهمها ولا تفهمه، فبدت لنا وقد انسلت مرارا خيطا رفيعا شفيفا بجسد أثيري يتقن لعبة الاختباء وراء حجاب نسجته بحيلة أتقنتها بفضل ما تمتلكه من انشطارات جسدية، مكنتها من اختراق الأشياء والتلصص على الغرف المغلقة، بما في ذلك دماغ زوجة أبيها التي كانت بنظرها خارقة مرعبة، مما رأته مكسبا يضفي عليها شعورا محببا بالزهو والهيبة اللذين تعاظما مع تكرار تجربة الاختراق مع أبيها، التي منحتها سلطة وقوة جعلتها مصدر هيبة واحتراز ممن حولها، ويبدو من المفيد هنا الإحالة إلى عبارة في الرواية تقول: «في الحب تقاد لمن تحب، في الكره تحاول السيطرة». وهي عبارة نستطيع من خلالها تفسير رغبة في السيطرة تجتمع ومشاعر الكراهية في داخل «أسماء»، لذلك وجدناها تفقد قدرتها على الاختراق مع «شمس» أختها بسبب حبها لها. نسمعها في إطار هذا كله تردد ما آمنت به على امتداد لعبة تصفها «إنها الوجه الحقيقي للحياة، حيث البقاء للأقوى، البقاء للأقوى فكرة أزلية أبدية».
قلنا إن أسماء ومنذ يوم ولادتها ظلت علاقتها بالموت وثيقة، واستمرت كذلك من خلال ما عرفناه عنها من أن كل من كان يرافقها في أحلامها تصيبه أنفاسها الملعونة بالموت «إنهم يموتون بعد الحلم بيوم، أو بيومين، أو بضعة أيام. وفي مرحلة ما كلما رأيت أحدهم في المنام أصحو على خبر موته». وهي نفسها تدعي أنها لم تكن تعرف لماذا؟ كل ما ظنته أنها رسولة اختيرت لإنذار من حان أجله، لتكون مع توالي أسماء الموتى «كمن ينظم عقدا، تنفرط حباته إلى العدم مع كل شروق شمس». ولكن هل كانت أسماء حقا غير مذنبة؟ ويحضر السؤال أيضا في ما إذا كانت تمارس انتقاما غير عادل من حياة ظلمتها؟
عند هذه النقطة نستذكر شعورا بالظلم يتصاعد داخل «أسماء» منذ انكسرت آنية ثمينة لآسيا حملت هي وزرها بلا ذنب، فرأيناها تلجأ إلى قصة يوسف عليه السلام، وضرورة أن تظهر براءتها كما الذئب، لكن «أسماء» كما تكشف أفكارها لم تكن مثل يوسف قادرة على التسامح، وآثرت أن تغرق في الصمت، فاحتار الأطباء في تشخيص حالتها، خصوصا بعد محاولتها الانتحار، وهي الحيرة ذاتها التي تنتابنا نحن القراء إزاء شخصية غامضة، لا نعرف إن كانت مجرد مريضة مصابة باضطرابات نفسية، أو إنها إنسانة اتخذت قرارا بالخلاص، من خلال اللجوء إلى حلم يخلصها من كل أشكال القيد المادي، إلا أنه حلم يستدعي المراجعة لأنه على مدار السرد كان سببا في هلاك كل من يرافقها فيه بدون أن تكون قادرة على تغيير هذا المصير، لذلك رأينا نزلاء المستشفى الذي نزلت فيه يتجنبونها ويحملونها وحدها مسؤولية الموت من حولهم، فيقول أحدهم: «إن لها رائحة الطاعون، بل هي فيروس أشد فتكا من كل وباء». «ينبغي أن تعود من حيث أتت بشعرها الجهنمي، ألا ترون معي أنها ابنة الجحيم».
في غمرة هذا كله، نرقب «أسماء» وقد اندفعت وراء المزيد من أنواع الفشل والظلمة، يصحبانها في أزمنة وأمكنة يلفهما الكثير من الغموض، إلى أن يستقر بنا المشهد في مكان يبدو كما (المطهر) يطلب منها (صوتها/ قرينها) فيه التوقف عن الحكم على الناس، أملا في التحرر من روحها المظلمة التي ظلت معها في العالم السفلي، وصحبتها في مكان تبحث فيه الأرواح مجتمعة عن خلاص شرطه العثور على مفتاح، تتحدد من بعدها مصائرهم، فإما الغفران أو مصير البقاء معلقين، وهو ما يؤول إليه حال «أسماء» التي يحملها السرد مسؤولية أحلام اختارتها خلاصا ذاتيا يودي إلى تهلكة الآخر في العالم الظاهري. تنتهي الرواية بصوت القرين يدينها لأنها امتلكت نفسا خبيثة ظالمة، اختارت شرا لم يسلم منه أحد، رغم ما كانت تردده بالقول: «ظننته قدرا حتميا. ظننت أنها مهمتي التي خلقت لأجلها». والنتيجة أنها تهلك جزاء وفاقا، لتنتهي الرواية بسؤال عما يمكن أن يتبقى لروح أجرمت ولم تطلب الغفران؟ فالتابع والمتبوع سيسقطان في القاع، يختفيان ويضيعان بين أصوات معذبة ستغرق لا محالة في أنين الأوان والذل والهوان، ليكون جليا في نهاية المطاف أن الواحد منا بالضرورة مسؤول عن أفعال اختارها بحكم حريته الإنسانية.
يتراءى لي أن الحقائق من شأنها أن تحتل مكانها بالموت، بل إن شيئا من هذه الفكرة كان له حضوره المدهش أثناء موت العمة «سالمة» التي تلقفت «أسماء» منذ الولادة لترعاها، وصرنا فترة احتضارها التي امتدت لأيام نتلقى من المعلومات والحقائق عن ماضيها البعيد ما يكفي للقول إن رقعة من الحقيقة تدخل من الفتحة التي تخلفها الروح أثناء انفصالها عن الجسد، وبذلك يكون الموت هو الواسطة الأدق والأصدق للتعرف على الحقائق، بما يتيح لي القول إن رواية «ابنة الجحيم» وإن كانت من ذلك النوع الذي يفتح الباب لقراءات عديدة، إلا أنها تجبر متلقيها على تأمل وحدة مكينة بين الموت والحياة، يتأكد لنا معها أن تجربة الموت هي في النهاية تجربة الحياة، لما يحمله الموت من قوة مكاشفة قادرة على تحديد معنى الحياة، ومن ثم منحنا الفرصة واسعة كي نفهم الوجود الكلي المتجه نحو الموت، بما في ذلك جوانب مادية وعاطفية وإدراكية يكتنفها الكثير من الغموض في عالمنا الظاهري الذي نحياه.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى