القص الشعري والمجاز في «سفر الحديقة» لليمني هايل المذابي

أحلام غانم

حاول القاص اليمني هايل المذابي في مجموعته «سِفْر الحديقة» السعي إلى إعمال عقل المتلقي بلغة حوارية تُماثل الحقيقة في مُحاولته الوصول إلى الحدود الفاصلة في تدبير وتصوير أشكال الممانعة والمقاطعة والتجاوز في قراءة الواقع المعاش، ويتمثلها في عرض عذابات شخصية لأفراد يعيشون في المجتمع على طريقتهم. يدرك المذابي أن القيمة السيميائية تكمن في العلاقة القائمة بين الدال والمدلول، ولا تقوم على علة من العلل المنطقية أو الطبيعية، إنما بنظام القصة القصيرة جداً وبنيتها الخاصة جداً، التي تحمل الثيمة على جنح تشكيل مرمّز قصدي مترابط، بوسائل لغوية بلاغية صرفة قابلة للفهم والقراءة والتأويل، ولذلك بنى المذابي نصه على عقدية الرمز، كي ينجز تعدد التأويل، ويُدخل القارئ حديقة خلف حقيقته، ويحقق مقولات بارت «موت الكاتب، هسهسة اللغة، تفجير النص ولذته». ويمكننا أن نرى حاشية حضور المؤلف كانت رهنا بحروف/بزهور سفر الحديقة وهي محاولة جادة من المؤلف العودة إلى المنبع الأول، وإعادة ترتيب أسئلة المثقف القاص في مجتمعه ورسالته المرتبطة بالتعاطف مع المهمش والمظلوم والمقهور، باستحضار رائحة الزهور كي يعطي الخطاب مساراً مختلفاً في استحضار الماضي إلى الحاضر وقراءة الواقع.

العنوان كدال على المتن

أوَّل ما يثير قارئ أي كتاب هو عنوانه، لأنه يستجمع مختلف مكوناته، ويسعى ليكون دالا على مختلف عوالمه، وفي دلالته العامة على ما يتضمنه من أبواب وفصول، وما تحمله من قضايا وأفكار تتطابق مع ما يوحي به أو يومئ إليه. جاءت النصوص «الدليل لكل من ملأ اليأس قلوبهم أن الإحسان لوردة هو قمة التغيير في حياة المرء، وبرزخ انتقال إلى عوالم المحبة الأبدية، ومبعث يستحق الحياة من أجله». لكن عندما يسكنه الضوء، وتسكنهم عتمة، فهل سيُهَرِّبون عتمتهم إلى ضوئه، أم سيُهَرِّبُ ضوءه إلى عتمتهم؟ تحثّنا تساؤلات الكاتب على التفكير في الأدلة والزمان، أم أنّ الزمان يتعذر التفكير فيه قبل إدراك الفرق بين الخطيئة والحقيقة والحديقة؟ هل هو هروب بأقنعة الزهور من حقيقة الذات إلى إدانة كائنات صنعها اللاوعي في مصانع العطور الزائفة؟ وقد نفلح كما قد أفلح (بارت) حين قال: «إن فصل النص عن ماضيه ومستقبله، يجعله نصاً عقيماً، لا خصوبة فيه، أي أنه نص بلا ظل. في هذا السياق يبدو لنا نص المذابي كظل ثابت من القيم، تتسم بالترابط والتواصل، وأن الماضي لا ينفصل عن المستقبل فهذا التعدد بتصنيف المبنى وتنسيق المعنى يقود إلى حركة لا تبتغي التوقف، ولا تقبل السكونية، تعطي طرفاً من القول وتفتح باباً واسعاً لتعدد لا يحد في تنوع معاينة التي لا تقبل الاختزال.

نواة المجموعة

لا يتجلى الزمان بوصفه معنى إلا في أفق كينونة إنسانية يقظة تخط لذاتها مشروعًا زمانيًّا أو تاريخيًّا. وهذا ما جعل الكاتب يعنون مجموعته القصصية بـ»سِفْر الحديقة «، كمعرض أزهار وأفكار وكمقطع استهلالي يشكل نواة المجموعة، ويبين تمفصلاتها الأساسية وطفولتها المدهشة كالتوليب .وانبجاس الشاهد الممانع من ضلع الحقيقة، حجة مضيئة على موهبة الكاتب، إذ يقول: «من أين للأمل أن ينبجس لولا ضلع اليأس الذي ينسلخ منه، كما ينسلخ النهار من ضلع الليل، تماماً مثلما انسلخت التوليب من ضلع لقاء أبدي؟».

البعد الفلسفي

من هذا المنطلق العنوان «سفر الحديقة» يفصح بقوة عن موضوع المجموعة القصصية، الموسومة بخصوصية عناوينها «حلم وردي، الليلك، الأقحوانة، البنفسجة، المانوليا، البيلسان، السوسنة، عباد الشمس، زهرة الصبار، التوليب، النرجس، الياسمين…». بمعنى أن المذابي يفكك التجربة القصصية الحديثة، ويعيد تشكيلها وفق رؤية جديدة مشحونة ببعد تأملي فلسفي، وهذا المدلول يتأكد من خلال التوغل في قراءة «سفر الحديقة» .لعل القاص هنا أراد الاحتراز من أي قراءة غير واعية تدعي أن متن القصة تحريف لسفر التكوين المقدس.

اللغة والرؤية

تتميز لغة المذابي بكونها تتجاوز استخدام اللغة المباشرة التي تنبني على الخاصة التقريرية الجافة الخالية من كل رونق بلاغي وجمالي. فالأديب يوظف في بعض الأحيان تعابير قائمة على المجاز والمشابهة واستعمال الرموز لتشخيص الأحداث والمواقف وتجسيدها ذهنيا وإيحائياً وجماليا. وهذا يوضح أنه استفاد من التقنيات الغربية/البصرية على مستوى الكتابة القصصية (المنولوج. الأسلوب غير المباشر الحر. فلاش باك. استشراف المستقبل) إذ لا يكتب المذابي نصاً إلا وجعل له عنواناً تصنيفياً ثانياً بيانياً، من حيث الرؤية السمعية والبصرية والشعرية .وهنا في «سفر الحديقة» نجد النصوص التي كتبت بأسلوب السرد التعبيري محققة لقص شعري نموذجي، نجدها تقدم تحت تصنيفات تجديدية من حيث البولوفونية بتعدد الأصوات والفسيفسائية بلغة المرايا والترادف التعبيري .هكذا يمرر الكاتب أولا، في صمت، تلك المذابح البشعة التي ارتكبت في حق إنسانية الإنسان بل وينجح في حذلقة عجيبة ومقلقة في تنزيل مفردات فلسفته النسقية على هذا الواقع المأساوي، فتتبدى فلسفة تبريرية، فأمام التسطير/الروح المطلق/العقل الكوني الذي يجسده سفر الحقيقة في هذه الحديقة الغنية بألوان وأنواع الزهور، لا مهرب إلا التلاشي الفيزيقي والمعنوي حيث يقول : «لم أكن أعرف معنى الحرية، قبل أن أصادفها، مثلما لم يع «سبارتاكوس» وأشياعه الـ»جلاديتورات» أنهم كانوا أحراراً إلا عندما صادفوا ورود الجنوب.. تماماً مثلما سيدرك العالم أن تمثال الحرية أكبر كذبة في التاريخ، حين يعرف أن فرنسا أكبر مروج لثقافة الورود في العالم». عدم إمساكنا بمفهوم الحرية، وفقدان ماهيتها، اسئلة عامة ومجردة، تضعنا الإجابة عليها في مواجهة مباشرة مع حقيقة العبودية.
وبذلك التسطير يمهد الكاتب لتصور قديم حديث لحقيقة الحرية، محدثًا بذلك انتقالاً نوعياً وموازياً من تناول مسألة الحقيـــــقة/الخطيئة/ في إطار معرفي إلى تناولها في سياق أنطولوجي. فالحرية ليست في المكان والزمان، بل هي في الإرادة الحرّة التي تعيش في ضمير الإنسان ووجدانه وضميره ورؤيته ورؤياه.
إلا أن اللافت، تُعاد خلاصة المعنى الفلسفية لـ«سفر الحديقة» إلى عتبة العنوان/الحقيقة التي تختتم في هذا الوعي «تعيش هذه الأزهار سنوات مديدة، وعمراً طويلاً، وكانت نعم الخلف لأبيها في الحكم، وعرف عنها ما عرف عنه من حكمة، «. ولعل الوحدة السردية الاختتامية، تشير إلى مغادرة المكان الضـــــيق والانطلاق نحو المكان الواسع، حيث تســــتطيع اللغة أن تتحرّر والرائحة أن تنطلق خارج سلطة الحديقة..

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى