«زبور» كمال داود… الكتابة هي التمرّد الأوّل

سعيد خطيبي

في العلاقة الملتبسة بين الموت والأدب تأتي رواية كمال داود الثّانية «زبور أو المزامير» (البرزخ، الجزائر 2017). يذهب الكاتب إلى الهامش ليحكي مصائر استثنائية، لشخصيّات ملّت من الروتين ومن تكرار خساراتها، ولم تجد خلاصا لها منه ومن الاحتضار سوى في الكتابة.
في هذه الرّواية، تصير الكتابة دواء، مخدرا وملجأ وحيلة لتمديد الأعمار، وللسّخرية من الموت. قد تبدو المُعادلة عبثية، لكن كمال داود وجد سياقا لها، ابتكر الشّخصية التي تقوم بتلك المهمّة السّماوية، منح بطله بعض الأوراق والأقلام، ووفّر له كُتبا، قديمة وأخرى جديدة، يقرأ بعضها، ويكتفي بتصفّح بعضها الآخر، لكي يشحن مخيّلته ولا يتوقّف عن الكتابة، وعن إنقاذ أرواح رجال ونساء وأطفال، من قريته الصّغيرة والمجهولة. في «زبور أو المزامير» يتحوّل الأدب من تسلية إلى قضيّة مصيرية، يصير سببا في بقاء النّاس أو فنائهم.
كان هايدغر يقول: «الموت، سيّد مطلق». هي مقولة لا يتّفق معها كمال داود (1970) فقد جعل من الموت «سيّدا نسبيا»، ضيفا لا أكثر، يمكن تجاوزه بفضل حكايات ومخطوطات الشّخصية الرّئيسية: زبور، يافع ويتيم، في علاقة صدامية مع والده الحاج إبراهيم، أتّهم وهو في الرّابعة من العمر بمحاولة رمي أخيه غير الشّقيق في بئر، طُرد من البيت، ووجد نفسه يعيش برفقه عمّة له اسمها هاجر (قصيرة وسمراء)، تقضي وقتها في مشاهدة أفلام هندية بعدما فشلت في إيجاد زوج لها، في بيت تركه واحد من المُستعمرين القدامى، في قريته البعيدة، المسمّاة أبوقير. كلّما اقترب أجل واحد من أهالي القرية، وبدل أن يحملوه إلى مستشفى أو إلى راقِ أو إلى مشعوذ، بدل أن يبحثوا له عن دواء أو عشبة نافعة، يحملونه إلى زبور، مرفقين بأقلام وكراريس له، ليستطيع مواصلة الكتابة، ومنح عمر جديد للشّخص المُحتضر. من الصّفحة الأولى يُعلن بطل الرّواية عن وظيفته: «الكتابة هي الحيلة الأنجع لمواجهة الموت. لقد جرّب النّاس الدّعاء، الأدوية، السّحر، ترتيل الآيات أو الخنوع، لكن أعتقد أنني الوحيد الذي وجد الحلّ: وهو الكتابة». هكذا يتحوّل زبور من شخص عادي، إلى «منقذ» يقلّل من أحزان القرية، ويخفض من عدد القبور، التي تحفر سنويا في مقبرة أبوقير.
«قلبي كتلة من ورق» يقول زبور عن نفسه. لقد تعلّم لغته الوطنية، في المدرسة وفي الكتاب المقدّس، لكنه تعلّم لغة أخرى، بفضل الأدب، فرنسية أمسكها من قرنيها، وأخرجها من قصص وروايات دأب على مطالعتها، ثم صار يكتبها ويستعين بها في مواجهة الموت، وفي دفعه إلى الخلف. «أنا أكتب بلغة أجنبية، تُداوي المحتضرين وأحفظ حظوة المستعمرين القدامى» يقول عن نفسه. الموت هو لحظة المساواة الوحيدة بين البشر، هو المنطق الوحيد الذي لا يمكن معاكسته، أو هكذا يخّيل إلينا، لأن زبور يفكّر، بمنظور آخر، «عندما أكتب عن الموت، يتراجع أمتارا قليلة، مثل كلب متردّد يكشّر عن أنيابه». يضيف «ويصير قدرا يمكن النّظر فيه، تقبّله أو رفضه».
بطل الرّواية لم يكن يعلم أن الكتابة ستكون سببا في إنقاذ المحتضرين، وتأخير الموت، فقد حصل الأمر بشكل، تدريجي، غير متوقّع في البداية، رضي لنفسه أن «يغرق» في الكتابة وفي الأدب، أو يكون كالنّبي يونس في بطن الحوت، معزولا عن الآخرين، وأن يظهر بشكل شخص غير سوي تماما أمام الآخرين، رضي لنفسه أن يظلّ «عازبا وبلا تجارب عاشقة»، لكي ينقذ آخرين، يعرف بعضهم وكثيرين لا يعرفهم، من مصيرهم المحتوم إلى المقبرة. سيجعل زبور من حيوات أهالي القرية فرحا مؤقّتا، سيُساعدهم في أمر عجزت عنه الأدوية والخلطات السّحرية، لكنه لا يفكّر قطّ في نفسه، لم يعد سعيدا تماما في الحياة التي يعيشها، في قرية نائية، بلا تاريخ ولا حاضر، كما أن حياته الشّخصية ليست مستقرّة، فهو يحبّ امرأة اسمها جميلة، مطلّقة وأمّ لطفلتين، هي بكماء لا تقرأ ولا تكتب، وهو لا يُجيد طريقة للتّحاور معها، وكسب ودّها وحبّها، مع ذلك يصرّ على كتابة رسائل لها. يعيش زبور مثل «روبنسون كروزو» وحدة اختيارية، مرفوضا من بعض عائلته، ولا أحد يفهمه بين أهله، مُتصالحا فقط مع عمّته هاجر، فهو الوحيد المتعلّم، الذي ألقى على نفسه مهمّة لم يسبق إليها أحد قبله، أن يُقاوم القدر بالكتابة، ويُطيل في أعمار من يحبّهم ومن لا يحبّهم.
ستتحوّل الكتابة في حياة البطل من متعة، من لحظة عابرة لتحسين المزاج، إلى «وشم»، إلى ثابت لا يستطيع التّخلي عنه، «وشم وخلف الوشم جسد ينتظر أن يتحرّر». سيستثمر القصص والكتب التي قرأها في كتابة ما لم يُكتب، سيحمّل نفسه رسالة مثل تلك التي حملها أنبياء قبله، ويجعل من العالم كلّه كتابا، كتاب يكتب فيه كلّ واحد من الشّخصيات، ما تيسّر له لتستمر الحياة. سيجعل أيضا من الموت لحظة جماعية، بدل أن تكون لحظة فردية، سيقلّل من كآبة القرية التي يعيش فيها، وكسلها وخمولها، ويحوّل الموت إلى خيار، قد نعترض عليه إذا جاء في غير وقته. لكن المواجهة القصوى التي سيقع فيها زبور هي يوم يجد فيه نفسه ملزما بإنقاذ والده الثّري الحاج إبراهيم المحتضر، هذا الوالد الذي كان خصما له، واشتهر بذبح الغنم، و»بذبح» ابنه من سلالة العائلة، سينتهي به المطاف إلى شيخ محتضر بين يدي ابنه، الذي يستعيد، في تلك الآونة، كلّ سيرته الشّخصية، مع والد انتقم منه وهو صغير، ثم بات «صغيرا» بين يديه.
«زبور أو المزامير» هي حكاية، بالدّرجة الأولى، مع مستويات كتابية مختلفة، ترفض الانغلاق في أسلوب واحد، هي نصّ ضدّ الكآبة والملل، يهمّها أن تحكي لا أن تبحث عن أسلوب واحد بمقاسها، هي حكاية كبرى تجزّأت إلى حكايات صغرى، كما لو أننا أمام نصّ مُهرّب من «ألف ليلة وليلة» (التي يُشير إليها المؤلف، كما يُشير إلى عدد كبير من المرجعيات الأدبية المحلية والعالمية، لكتّاب معروفين، من القديس أوغستين إلى بلزاك وهنري ميلر، ثمّ الطّيب صالح ومالك حدّاد وغيرهم)، وهو ربما النّمط الأنسب لموضوع الرّواية، فالحكاية فسحّة ليتوقّف الإنسان عن مصارعة نفسه، كما ذكر دانيال بيناك. الحكاية هي كّل نظرة مختلفة للواقع، لكن الشّيء الأهمّ الآخر هو لعبة الأسماء، التي ورّط كمال داود نفسه فيها، اختياره لأسماء شخصياته لم يكن عفويا زبور (هو أيضا إسماعيل)، والده إبراهيم، الذي كان يذبح الغنم في احتفالات القرية، وهاجر التي رعته، هم ثلاث شخصيّات أساسية، يُضاف إليها العنوان الثّانوي للرواية: المزامير، التي كان يكتبها زبور لتأخير أجل المحتضرين، بدون أن نغفل عن اقتباسات المؤلف من النصّ القرآني، كلّ هذه العناصر تجتمع كما لو أنّ كمال داود كان يكتب بنيّة محاكاة واحد من النّصوص المقدّسة، كما لو أنه يريد إضافة ثلاثة مزامير جديدة لمزامير داود (مزمور الجسد، مزمور اللغة ومزمور النّشوة، التي عنوان بها فصول الرّواية الثّلاثة)، كما لو أنه أراد أن يجعل من الأدب أيضا نصا مقدّسا، ومن الكتابة سببا للإيمان، ففي واحدة من المقاطع يتساءل بطل الرّواية: لماذا طلب جبريل من النّبي محمد (ص) أن يقرأ ولم يطلب منه أن يكتب! أليس فعل الكتابة أسبق؟
هكذا إذن يصحّح زبور المُعادلة، ويقترح أن الوحي يبدأ من كتابة، من مزامير، من رواية، تتعدّد فيها الأصوات ضدّ الصّوت الأحادي، نقرأها لننقذ أنفسنا من موت بطيء. «إذا كانت الكتابة قد جاءت إلى العالم وانتشرت في ربوعه، ذلك لأنها كانت وسيلة قويّة لمواجهة الموت، وليس مجرد أداة لعملية حسابية بالبابلية. الكتابة هي التمرّد الأوّل، وهي النّار الحقيقية المختلسة والمتوارية داخل الحبر لمنعنا من الاحتراق» كتب زبور.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى