«السيدة دي ساد» ليوكيو ميشيما … «نظرة» من اليابان

طلعت رضوان

شخصية الماركيز دي ساد من الشخصيات المُحيرة تاريخياً، خصوصاً وقد كان له دور في أحداث الثورة الفرنسية. وظهرتْ عنه مؤلفات كثيرة أرّختْ لشخصه، فضلاً عن أعمال سينمائية ومسرحية. ووصل الاهتمام بحياة الماركيز دي ساد إلى الإبداع الياباني، إذ كتب يوكيو ميشيما مسرحية «السيدة دي ساد»؛ ومن العنوان يتبين أنه ركز على شخصية السيدة زوجة الماركيز. لماذا؟ لأن تلك السيدة ظلت على الوفاء لزوجها، على رغم شذوذه وسجنه الطويل، والرشاوى التي دفعتها ليخرج من السجن، لكنها بعد مرور تلك المحنة رفضته، وقرّرتْ أن تعيش باقي أيامها راهبة. تبدو براعة المؤلف الياباني في أنه لم يُجسـد شخصية الماركيز على المسرح، بينما ركز على شخصية زوجته، لأنه اعتبر رفضها له- بعد سنوات الوفاء– هو المحور الأساسي لتلك العلاقة بين الزوجيْن. كانت الزوجة تستمع إلى الأخبار المُـتداولة عن شذوذ زوجها، مثل ولعه برؤية النساء العاريات ثم تعذيبهن ورؤية الدم النازف من أجسادهن، لدرجة أن البارونة دي سيميان (المتعصبة دينياً) قالت لأم الماركيزة: «إن اسمك لم تلـوثه فضيحة من قبل، وبمقدوري أن أتصور العذاب الذي سـببه مثل هذا الصهر المتحلـل». الأم هوَّنتْ مِن الأمر في البداية، فقالت لها السيدة دي فون (الشهوانية) بسخرية: «إن مصاصي الدماء في غاية الرقة، وإن الماركيز يصطاد العاهرات لإشباع شذوذه»، فقالت الأم: «أي جرأة منك أنْ تستخدمي هذه الكلمة؟». قبل القبض على الماركيز تمكن من الهرب، فصدر حكم المحكمة بإعدامه. وقام بعض الغوغاء بحرق صورته في ميدان عام. فكان تعليق البارونة دي سيميان: «تلك كانت نيران التطهر مِن كل خطايا الماركيز بمجرد حرق صورته». وهكذا خلط المبدع الواقع بالخرافة. من المحاور المهمة في المسرحية أن أم زوجة الماركيز استعانتْ بسيدتيْن من أجل العفو عن زوج ابنتها. مع مراعاة التناقض بين هاتين السيدتين: فإحداهما (سيميان) قالت إنها ستلجأ للفاتيكان لطلب العفو. بينما الثانية (سان فون) فقالت للأم: «سأبذل كل ما في وسعي لا مِن أجلك، وإنما من أجل الماركيز. سأمضي من رفيق فراش إلى آخر. مُـتنقلة من حلقة اتصال إلى أخرى حتى أصل إلى كبير المستشارين، المثال الأعلى للفضيلة، والذي سأغويه بفنوني ليُـبطل حكم المحكمة. أمِن أجل هذا دعوتني؟ لتطلبي مني أن أستخدم جسدي؟»، وعندما استنكرتْ الأم كلامها أضافت سان فون: «طلبك جدير بالإعجاب. تتوسلين بالشر لإنجاز عمل فاضل». وعندما انصرفتْ تلك السيدة قالت الأم عنها: «يا للأفعى الخبيثة؛ من كان يظن أنني سأضطر لطلب جميل من امرأة على هذه الشاكلة؟». وفي الوقت نفسه توسَّـلتْ الأم لابنتها لتطلب الطلاق من الماركيز؛ وأضافتْ: «ولستُ أبالي بتأثير هذا في صلاتنا بالعائلة المالكة»، فكان رد ابنتها: «ليس الطلاق مما أباحه الرب». وهنا، فإن المؤلف بأسلوب أدبي رفيع مزَج بين الواقع وسيطرة اللغة الدينية وطغيانها على تفكير الزوجة. فكان رد الأم أن ولع الماركيز بضرب النساء بالسياط وهن يمضغن قطع الحلوى. وحاولت إقناع ابنتها بأن زوجها رجل شاذ. دافعتْ الزوجة عن موقفها فقالت: «يقول الناس إن زوجي مجرم. لكنه توحـد مع جرائمه في أعماقي. ابتسامته وغضبه. رقته وقسوته. لمسات أصابعه حينما يضرب العاهرات بسوطه. وتوحـّـدتْ إليتاه اللتان استحالتا قرمزيتيْن نتيجة للجلد الذي تلقاه من عاهرة»، فقالت الأم: «إنك تحطين من قدرك بهذه المزاوجة بين ما هو دنس وما هو مقدس. وقد يكون توق الماركيز للدماء له علاقة بأمجاد أجداده الذين شاركوا في الحملات الصليبية. وهكذا ببراعة فائقة فإن المبدع الياباني سخر من حملات الغزو تحت رايات الصليب، ومن الماركيز في وقت واحد. ومع التوتر الدرامي تدخل (آن) أخت زوجة الماركيز، ومن الحوار مع أمها نعلم أنها أقامتْ علاقة مع زوج أختها فقالت الأم: «إنّ الماركيز شيطان. لا يكتفي بواحدة، وإنما بابنتيَّ معـاً». ثم طلبتْ من ابنتها أن يظل هذا الأمر سراً فلا تخبر أختها، ونزلتْ الصاعقة على الأم عندما قالت الابنة: «إن أختي على علم بعلاقتنا». وينتهي الفصل الأول بتراجع الأم عن طلب العفو عن الماركيز.
في الفصل الثاني؛ تم القبض على الماركيز، وصدر الحكم بسجنه وتُحظر عليه الإقامة في مرسيليا لمدة ثلاث سنوات لارتكابه جرائم اللواط وإفساد الأخلاق. ومع قرب الإفراج عنه، فإنّ زوجته قالت: «في تلك اللحظة بدتْ خطاياه كما لو كانت قد انصهرتْ مع شقائي. كنتُ أستشعر وحدته في السجن. وكنتُ أعلم مدى الفسوق الذي انغمس فيه. وعدد الرجال والنساء الذين شاركوه لذَّاته». وبرّرتْ موقفها المُـتناقض بأنْ قالت: «لم يكن لي خيار في سلوكي. كان أقرب إلى سلوك الأم». ثم تكون المفاجأة عندما تقول لأختها: «أنا التي اخترتُكِ له».
وشخصية أم الزوجة قـدمها العمل في شكل درامي مؤثر، حينما علـلتْ نجاحها في عدم الإفراج عن الماركيز، وفي الوقت نفسه حبها لابنتها، فقالت: «لقد سئمتُ من موقف الخصم من ابنتي. وما كان دافعي للتصرف على نحو ما فعلتُ إلا التفكير في سعادتك»، وطلبت منها أن تهجر الماركيز نهائياً. فكرَّرتْ ابنتها رفض طلبها وتمسَّـكتْ بزوجها، وقالت: «إن قلب زوجي هو قلبي على رغم أسوار السجن، وبيننا روابط أقوى مما يستطيع أي إنسان فصم عراها». فقالت لها أمها: «إن إطلاق سراحه يعني العودة إلى السياط، فهل معاناتك معه تُـشعرك بالسعادة؟»، فقالت الابنة: «أي سعادة أعظم بالنسبة لزوجة مخلصة من أنْ يُـطلق سراح زوجها؟». في الفصل الثالث عاتبتْ الأم ابنتها لإصرارها على زيارة زوجها في السجن طوال 12 سنة. ثم ينقلب موقف الأم عندما تتوهـّـج نيران الثورة، وتسمع شعارات المتظاهرين: «اشنقوا النبلاء على أعمدة المصابيح»، وعندما علمتْ أن الماركيز انضم إلى صفوف الثوار، قالت لابنتها: «ها هو على وشك استعادة حريته. وليغفر لي ما جنته يداي. لقد أصبح له أصدقاء في صفوف الثوار، ووعدَ بمساعدتي إذا واجهتني الصعوبات». ولما علمتْ أن ابنتها ستدخل الدير انزعجتْ، فكان رد الابنة المفاجئ أنها كانت تزور زوجها طوال تلك السنوات، مع الإصرار على الترهبن؛ «وفي كل مرة أذهب لرؤيته كنتُ أعقد العزم على أنها ستكون الأخيرة. وفى المرة التالية ينهار عزمي». ولكن الأم الحريصة على مصالحها، ولأنّ الماركيز سيقف معها قالت: أعترف بأنّ الماركيز هو السفالة بعينها، لكن المجرمين والمعتوهين هم من يحكمون الآن». قالت ابنتها: «أرى أنك قرّرتِ استغلاله»، فقالت الأم: «بالطبع قررتُ، ولهذا أحتاج مساعدتك». ولكن ابنتها أصرّتْ على الرهبنة وقالت: «لقد اكتشفتُ أنّ كفاحي لمساعدته في الهرب، وجهودي للعفو عنه، كانت مضيعة للوقت. كان الماركيز يحاول تقنين الشر. إن هذه الدنيا التي نحيا فيها من خلق الماركيز دي ساد. هو أغرب رجل عرفته. خيط نور من الشر». ويكون ختام المسرحية عندما تدخل الخادمة لتُـعلن أن الماركيز على الباب، وتسأل: هل أدخله؟ فقالت زوجته: «اطلبي منه أنْ يرحل، وقولي له: لن تراه الماركيزة أبداً». وهكذا استطاع يوكيو ميشيما تجسيد شخصية الماركيز دي ساد (الذي لم يظهر في المسرحية) من خلال شخصية زوجته التي جمعتْ بين الوفاء له حتى يخرج من السجن، ولفظها له نهائياً.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى