أسطرة الكتابة في «وداعا سانتا ماريا» للقاص مصطفى حدريوي

مصطفى لغتيري

الكتابة مغامرة، لأنها- في حقيقة الأمر- ضرب في أعماق المجهول ومحاولة لكشف للمستور. إنها، بمعنى آخر، رحلة في الذات وفي الواقع، يمارسها الكاتب وقد امتزجت في دواخله معطيات عدة، ذاتية وموضوعية، يصعب الفصل فيما بينها، فضلا عن مؤثرات أخرى عصية عن الحصر، وهي في أغلبها لاواعية، يغدو معها الكاتب، في المحصلة النهائية، كشاف آفاق، بل إنه ليس سوى ذلك السندباد، الذي ينبثق بين فترات متباعدة من أعماق كتاب الليالي، متأبطا أحلامه وشغفه المتجدد لاكتشاف المجهول، أقصد تحديدا كتاب «ألف ليلة وليلة» الشهير، ليضرب في الآفاق، باحثا عن معنى متوار، عصي عن الفهم، يستحيل الوصول إلى دلالته العميقة إلا عبر آلية التأويل، من خلال استثمار القارئ لثقافته الموسوعية، التي قد تسعفه في حصر المعنى المفترض في الزاوية الضيقة، فيعلن عن نفسه من خلال شخصية أو حدث أو زمان أو مكان. وبطبيعة الحال قد يتحقق له ذلك حينا، وقد يظل العمر كله منشغلا بإمكانية استكناه لب المعنى أحيانا، بدون أن يتيسر له ذلك، وتلكم متعة أخرى لا يتذوقها إلا الراسخون في هذا الشيء الزئبقي المدعو الكتابة والمتورطون في محاولة فك طلاسمها.
كل هذا وغيره يعلن عن نفسه صراحة أو من وراء حجاب حـــــين يصادف المرء نصـــا يجــــمع بين الحسنيين، كمـــــا هو الشــــأن بالنسبة للمجموعة القصصية «وداعا سانتا ماريا وقصص أخرى» لمصطفى حدريوي، التي رأت النور حديثا، من خلال جامعة المبدعين المغاربة، فالكاتب في هذه النصوص القصصية أو في أغلبها يغامر من جانب في مراودة أرض الكتابة عن نفسها، وهي العصية أصلا على الترويض، وهو ثانيا يتخذ عبر سارده من السفر ثيمة له، وليس أي سفر، إنه ذلك النوع من التنقل المفتوح على الأفق المتمدد إلى ما لا نهاية، سفر يتجدد باستمرار من خلال الخوض في غمار البحر، ليجعلنا الكاتب نعيش معه لحظة المغامرة الطريفة، وفي الآن نفسه نستحضر كل تلك الرحلات البحرية، التي تختزنها الذاكرة البشرية، وتؤثث المخيال الجماعي للإنسانية كافة، تلك المغامرات البحرية التي كشفت عن توق الإنسان العميق لركوب الأهوال من أجل اكتشاف لذة المعرفة، عبر التعرف على أراض جديدة، وحضارات غابرة، وكائنات لم يعرفها من قبل، حتى اختلط لديه الواقع بالخيال، فأضحت الحوريات والأسماك العملاقة وجزيرة أطلنتيس بديلا عن الحقيقة الواقعية. وتلك حسنة الإبداع الذي لم يكتف بما يحبل به الواقع من مفاجآت، وإنما يجترح «واقعا «جديدا، زاده الخيال المجنح، الذي يمكن التعبير عنه بعبارة النفري بعد تحويرها، لتصبح بعد الاعتذار لصاحبها طبعا « ما أضيق الواقع لولا فسحة الخيال».
في هذه المجموعة القصصية التي تتكون من قصة طويلة تحمل عنوان الكتاب، أي «وداعا سانتا ماريا» وقصص أخرى أقل طولا يمكن أن نسمها بالقصيرة، يتبدى شغف الكاتب بالمغامرة بشتى أنواعها، مغامرة الكتابة، من خلال التطرق إلى مواضيع يصعب عادة التعامل معها، فهي في حقيقة الأمر امتداد للأساطير والحلم، والحفر العميق في معطيات اللاوعي، كما نظر لها سيغموند فرويد مؤسس التحليل النفسي، ومن خلال التوق للسفر، الذي يبدو في أحد مستويات التأويل سفرا في الذات، قبل أن يكون سفرا حقيقيا في الواقع، أو نبشا عميقا في العقل الباطن الفردي والجمعي، لذا نجده محملا بمعان مخاتلة، لا تكاد تمنح نفسها للقارئ باليسر المفترض في التعاطي مع القصة، فكأنها ودلالة الشعر سواء. فهي نصوص ليست مكثفة من حيث الاستعارة اللغوية المباشرة فقط، ولكنها كذلك زئبقية المعنى، من خلال الصورة العامة التي تقدمها، فشخصياتها ليست محاكاة لشخصيات واقعية من لحم ودم، بل هي تمثل- في أغلب الأحيان- حالات نفسية وثقافية وحضارية، يلعب التناص دورا محوريا في تشكيلها، لذا تبدو مبطنة وقد ارتدت مسوح شخوص ذات مرجعيات أدبية، حفلت بها نصوص أدبية إنسانية سابقة.. والقارئ النموذجي يستطيع الكشف عنها بسهولة، تسعفه في ذلك خلفيته الثقافية ومرجعياته القرائية، التي راكمها عبر السنين.
ويتأكد هذا الجنوح نحو «أسطرة» الكتابة وعوالمها من خلال أغلب عناوين القصص وبعض شخصياتها ومضامينها، حيث نجد الإحالة على شخصيات أسطورية معروفة كشخصية سيزيف وفينوس والأباطروس وأديسيوس، وغيرهم من شخصيات الأوديسا، ولا نعدم وجودا حتى للشخصيات غير الأسطورية، التي نجد الكاتب يســــعى جاهدا للفها بمسحة من الغمـــــوض، أو جعلها متعـــالية عن الواقع وكأنها سليلة الآلهة، أو أنها على الأقل قادمة إلينا من عالم ميتافيزيقي مفارق لواقعنا، حتى إن سعت بيننا وشغلها ما يشغلنا من هموم وهواجس.
وقد لا يخفى على متصفح نصوص هذه المجموعة القصصية، أنها توفر لقارئها متعة مضاعفة، تتجلى في جمال اللغة أولا والرغبة في التماهي مع الشخوص ثانيا بالإضافة إلى التوق إلى الانعتاق من عالمنا ولو إلى حين، من خلال معانقة عوالم شبه أسطورية..

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى