جداريات نادرة لتشكيليين مصريين

شريف الشافعي

للجداريات حضورها الخاص في جملة الفنون التشكيلية، فهي القادرة دائمًا على ملء الفراغ بمساحات بصرية زاخمة وعناصر يجب على التشكيلي أن يخلق انسجامًا بينها، بغض النظر عن توافقها أو تنافرها. وتتطلب الجداريات قدرات استثنائية ورؤية متسعة، إذ يتعامل الفنان مع سطح كبير ويتوقع لعمله على الدوام أن يحظى بثبات نسبي.

يكتسب معرض “كنوز الهرم الرابع”، المنعقد في قاعة مؤسسة الأهرام للفنون بالقاهرة حتى الـ20 من أغسطس الجاري، أهمية مزدوجة؛ فهو من جهةٍ يضم مجموعة من الجداريات النادرة من المقتنيات الفنية لمؤسسة الأهرام التي تعرض للمرة الأولى للجمهور.

هذه الجداريات تم إنجازها في وقتها كي توضع على حوائط الأهرام، وجاء معرض “كنوز الهرم الرابع” ليقدمها للجمهور أخيرًا “بعدما ظلت سنوات طويلة داخل أروقة المؤسسة، يستمتع بها ويتذوقها أهل الأهرام وضيوفها فقط”، وفق تصريح الكاتبة سوسن مراد عز العرب رئيسة تحرير مجلة “البيت” التي تتولى رعاية المعرض.

يتضمّن المعرض أسماء رائدة وراسخة ومؤثرة في الجداريات على وجه الخصوص، وفي الفن التشكيلي عمومًا، منهم منير كنعان وزينب السجيني وسيد عبدالرسول ومصطفى عبد المعطي وأحمد نوار وزكريا الزيني وصبري منصور وعمر النجدي وحسن عبدالفتاح وزينب عبدالحميد وإبراهيم الدسوقي وأحمد نبيل وإبراهيم غزالة وسامح البناني وفرغلي عبدالحفيظ وعبد السلام عيد وغيرهم.

 

فرصة لجمهور الثقافة

قيمة إضافية أخرى للمعرض تأتى من تجاور جداريات هؤلاء الفنانين جميعًا في مساحة مكانية واحدة، ويشير إلى ذلك التشكيلي إيهاب اللبان القيم الفني للمعرض موضحًا أن التقاء هذه الأعمال النادرة لفنانين كبار حدث فني لافت، فالمعرض كما يقول اللبان “فرصة لتسليط الضوء على إبداعات مهمة، كما أنه فرصة لجمهور الثقافة لكي يشاهد تلك الأعمال للمرة الأولى متجاورة تحت مظلة واحدة”.

 

أكثر من عمل يضمه معرض “كنوز الهرم الرابع” للتشكيلي منير كنعان (1919-1999)، أحدها يمثل حضارة مصر الخالدة عبر العصور من خلال وجوه ورموز وأيقونات مصرية متنوعة تجسد تاريخ البلاد منذ الفراعنة مرورًا بالعصر الروماني فالحضارة الإسلامية.

تتلاقى في جدارية كنعان الملامح الشعبية في القرية والمدينة على السواء، فأبراج الحمام والفلاحات اللائي يحملن الطيور والأطعمة إلى جوار سيدات فرعونيات ورجال بالزي الرسمي والطرابيش يعزفون الموسيقى ويضربون الدفوف.

كنعان مبتكر أول لوحة تجريدية مصرية في العام 1945 وأول لوحة كولاج في العام 1953، بدأ حياته رسامًا ومخرجًا فنيًّا للكتب والمطبوعات، ويعدّ واحدًا من رواد الحركة الفنية المعاصرة بمصر، وله إسهامات لافتة في الجداريات والتجريديات الهندسية والكولاج الحرّ بصفة خاصة، وتتميز أعماله بتعدد مستويات التأويل والتلقي وقدرتها على استحداث لغة جديدة بصفة دائمة.

الفنان مصطفى عبدالمعطي المولود بالإسكندرية في العام 1938 يطل على جمهور المعرض بجدارية هندسية الطابع تتجلى فيها نزعته التصويرية كواحد من مؤسسي جماعة التجريبيين في العام ‏1958‏‏ حيث يلعب البعد الثالث دور البطولة في العمل مقترحًا أخيلة وفضاءات متداخلة، ويهيمن الشكل الهرمي على المشهد بإسقاطاته المصرية والشعبية، فيما يشكل النزاع بين الألوان الصاخبة والظلال معادلاته الخاصة الدالة في مسحة شفيفة من الغموض.

ويتجلّى وجه الفنان صبري منصور المولود في العام 1943 من خلال جدارية القلاع المصرية الصغيرة المتجاورة، فالنخيل والأشجار تصل الأرض بالسماء في شموخ، مثلما أن أجساد البشر تتواصل مع ضوء الهلال المقترب بحميمية. يبدو الطقس الكلي للعمل مثل حلم هامس يتحدى صخب الأرض، نائيًا عن مناطق الصراع إلى مساحة من السكينة والتصوف والفيوضات الداخلية السحرية.

 

أعماق التجريد والسريالية

يبحر الفنان عمر النجدي المولود في العام 1931 بجداريته إلى أعماق التجريد والروح السريالية مستدعيًا رموزه المفضلة من الوجوه والطيور والأسماك والقوارب، ويمزج الفنان الزخارف العربية بالخطوط والنقوش والحروف المستمدة من لغات متعددة، كما تحفل الجدارية بأصداء صوتية وشعبية، مبعثها الدفوف والآلات الموسيقية وحركة “التنورة” المعروفة في الفلكلور المصري.

أما جدارية الفنان سيد عبدالرسول (1917-1995) في معرض “كنوز الهرم الرابع” فتستلهم حياة الصيادين البسطاء في بناء عالمها التراثي الخصب ولا يكتفي الفنان برصد حركة الحياة الظاهرية، إنما يغوص في تفاصيلها وتموّجاتها الداخلية، ويحمل اللون الأزرق بتنويعاته وتردداته عمقًا تأمليًّا واسعًا، يتوازى مع استكناه جوانيات الإنسان.

وتشكل القوارب أيضًا محور اهتمام الفنان حسن عبدالفتاح المولود في العام 1938 في جداريته بالمعرض، على أن العمل لا يقدم البشر كوجوه وأجساد، إنما كأرواح حالة بالمشهد تتلبس حركة القوارب الكامنة وصخب البحر وزرقة السماء. المنظر في جدارية عبدالفتاح يتجاوز سكونيته ليشع حيوية ووهجًا إنسانيًّا وحركية تستقر في أرضية المتلقي فتهزها وتستثيرها.

 

وللفنانة زينب السجيني المولودة في العام 1930 جدارية بالمعرض تبرز اهتمامها المعهود بالبيئة الريفية والعناصر النسائية الفاعلة في المجتمعات المحلية من سيدات كبيرات وفتيات صغيرات، وتجد الفنانة ضالتها في حرفة الصيد اليدوي بالشباك بأصابع أنثوية، ويتسع المنظر الكلي لتلاقي الطبيعة الخضراء ممثلة بالحشائش والنخيل بالطبيعة الزرقاء ممثلة بالرافد الصغير للنهر.

أما الفنان أحمد نوار المولود في العام 1945 فيشارك بجدارية منقسمة إلى ثلاثة مربعات يختص كل جزء منها برموز وأيقونات تعكس ملامح البيئة المصرية من منظور حداثي، حيث يصير للطائر الأبيض وأوراق النباتات البيضاء تأويلات ودلالات تتجاوز المتعين الملموس إلى الكوني والمعنى البعيد وما وراء السطح من إشارات كامنة وعلاقات خفية.

في جدارية الفنان زكريا الزيني (1932-1993) تتعانق الخطوط والألوان فيما يمثل شبكة لانهائية من المتاهات المتداخلة، وفيها تسكن مجموعة من الوجوه المجردة الخائفة والخائبة في آن. يعكس العمل رؤية الزيني الفلسفية حول أن كل كائن يقبع ساكنًا في المربع المخصص له، ومن خلال نوافذ العيون البشرية في الجدارية يفتح الفنان مجالًا للإبحار الداخلي في أعماق النفس البشرية.

أما جدارية سامح البناني المولود في العام 1945 فتنفتح على قلب الطبيعة النابض مباشرة وأصواتها الملونة الآتية من ريش العصافير ومن سحر تغريدها فوق الأغصان وفي الفضاءات المفتوحة على حقيقة المعاني الإنسانية.

ألوان سامح البناني الممتدة في جداريته تطلق للأخيلة العنان كي تنطلق، فيما تعكس حركية الطيور دينامية كونية كبرى، من بعض تجلياتها براكين الأرض وثورات المشاعر في الصدور.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى