تحولات السرد القصصي بين الفني والمألوف في مجموعة ( طواف) للقاصة د. “كلارا سروجي”

-أحمد علي الغماز-   خاص (الجسرة)

حين تقرأ قصصًا ذات لغة قاطعة ومدوية وذات قيمة ايضًا لا بد أن تقرأ بالسطر الأخير اسم د. كلارا سروجي- شجراوي، لسبب واحد فقط وهو أنها تكتبني كقارىء، نعم، فحين يجد المتلقي نفسه وجهًا لوجه أمام أحداث يومية ومعاشة، وهذا هو مقصد الادب بكل اشكاله، -أن يقول شيئاً-، لأن الأدب – حسب الروائي ميلان كونديرا- الذي لا يقول شيئًا عمل غير أخلاقي، من هنا تستطيع أن تلج إلى قصص د. كلارا.
اللغة تأتي أحيانًا كمزيج بين الشاعرية واللغة الواقعية، ولا تقدم أحداها على الأخرى فيأتي الانسجام بين واقعية السرد الذي لشدة جماليات الوصف تشعر بأنك امام شيء غير موجود ثم تاتي اللغة الشاعرية لتضفي جمالا على جمال وتأخذ المتلقي نحو الذائقة الفنية التي يبحث عنها.
يقول الناقد جيرار جينت ، قد تكتب نصًا تغيب به المكان لكنك لا تستطيع أن تكتب بدون زمان، فالزمن عند كلارا قد يأتي على شكل لحظة خاطفة تتشكل أمامنا كمتلقين اولًا وبنهايات موجعة، وهذا ما تمثله قصصها القصيرة جدًا، لتترك القارىء حائرًا يلتفت حوله ويعيد تشكيل رؤيته، فهي هنا لا تتدخل اطلاقًا بالفكرة بل تقتنصها وكأنها لحظة هاربة تعيد صياغتها بفنية عالية، شخوص كلارا وبكل بساطة هي، أنا ، انتِ، هو، هي، في الطرقات، والمساءات الليلية، وقاع المدينة والموظف والعاشق والحبيبة، لذلك تبدو وكأنها ليست كائنات حبرية فقط بل بلحظة مجنونة تكاد هذه الشخوص أن تقفز من الورق لتبدو أمامنا من لحم ودم، لا أميل للخوض في تفاصيل القص لأن ذلك من مهمة القارىء، ليقرأ وحين ينتهي يدرك أن عليه أن يلتفت كثيرًا حوله.
هي العاصفة إذن وعلينا أن نستعد جيدًا لمواجهة هذا المجاز وهذه البلاغة التي سوف تقابلنا أمام وهج النثر، هو هذا المهرجان من الألعاب النارية الذي أطلقته كلارا في سماء المراة المعتم.
تقترب القاصة هنا من معادلة الشراكة بينها وبين الشخصية الاخرى في القصة القصيرة ، حين تبتكر فكرة ما وتود تشييدها بفن قصصي خارج عن المستهلك والمؤطر، فانها تبحث تحديدًا بالبعد الثالث للشخصية وقد تترك الصفات العامة والمالوفة لتدخل رغمًا عنها الى ذلك المشهد وتبدأ بصياغته محولة تلك العجينة من الاحداث والزمن والمكان الى ما يشبه قطعة البلور النادرة والتي لم تاتِ من فراغ وجمل فائضة، وانما من ذلك الوجع الانساني، الذي ربما لا تكفيه قصيدة أو رواية، إنما يأتي حارًا متدفقًا ولا تقوله إلا القصة القصيرة .
من هنا نستطيع أن نتعرف على عالم كلارا من حيث اللغة اولًا والتي جاءت على ما يبدو لغة قصصية متقنة من حيث قدرتها على التواصل بينها وبين المتلق، هناك على ما يبدو ثمة إشارت دقيقة للمرسل اليه ( القارىء) بصفته الشريك الثالث بالعمل الابداعي بعد المبدع والنص، هذه الاشارات بدت احيانًا بلغة قاطعة، فهي تقدم المشهد بدون ذلك الإسهاب الذي يفتك بالنص أو الرمز والمجانية التي لا طائل منها والتي تجعل المتلقِ يشيح بوجهه عن القص، لعدم قدرته على متابعة الحدث القصصي .
الحكاية ، داخل النص، أم خارجه ؟ هناك أقوال نقدية كثيرة حول هذا الموضوع المهم، هل الحكاية جزء لا يتجزأ من القصة القصيرة وهل ما تنتجه القصة تتعدى رؤية القاص لحكايته، يميل القارىء، أي قارىء، دائمًا إلى توفر عنصر التشويق وهذا لا ياتِ إلا بالقصة المتكاملة ، إن غياب عنصر القص عن اي عمل قصصي قد يغيب الصنف الأدبي وهو وجود القصة القصيرة، لذلك نجحت كلارا سروجي بالبقاء على ذلك الاشتعال والتشويق يمشي جنبًا إلى جنب مع الحدث بدون أن تقحمه بسطحية وبساطة، بل أبقت على سير الأحداث والشخوص جنبًا إلى جنب مع ذلك المضمون الهائل الذي عبّر عنه (الكلام الداخلي أو الخارجي) بما يطلق عليه المونولوج ، وهنا لن أستعرض شيئًا من القصص، لأنني أرى ان ذلك من عمل القارىء، فليبحث ويكتشف بنفسه.
لم تغب أيضًا اللغة الشاعرية، فقد تراها حين تكون بواقع حقيقي، واقعًا ليس كالواقع، هناك فقط يدرك القارىء أنه أمام موسيقى كثيرة وفراشات تذهب نحو الضوء قادمة من العتمة ، وأنَّ القاصة لا تستعرض موهبتها الشاعرية فقط، وإنما تجعل المضمون يأتي بتلك الدهشة أو الهزة التي تعتري القارىء حين يتابع القص فيشتبك بذلك الجمال وايصال الفكرة التي تود قولها.
شخوص كلارا ، تراهم أحيانا ، أينما وليت وجهك ، في الوظيفة وفي الطرقات الحزينة والعشاق أينما كانوا، فقراء وأغنياء ، أزواج وزوجات ، بمعنى ، هي لم تحتكر شخوصًا أقرب إلى المثالية المطلقة، بل اشتغلت على كل تلك الحيوات التي تقابلنا، بعيدًا عن التمجيد وعن المديح كذلك. لم تأتِ شريرة وغاضبة وحانقة على المجتمع بالمطلق بل وكما يقول الناقد ( امبير ايكو ): (تلك الفراغات التي يبحث عنها القارىء).
بمعنى خلق ذلك التوازن الهائل بين ملامح الشخوص، وبين واقعها اليومي حتى تكون أقرب للمنطق وتحدث ذلك الكم الهائل من اصطياد اللحظة الهاربة بكل تكثيف واختزال وتقدم القصة للقارىء، ليس على طبق من ذهب وإنما تجعله يشترك بالسؤال المهم: ماذا تريد الشخصية أن تقول لي ؟
استطاعت القاصة اأن تحافظ على وحدة الشخصية، وحدة المكان، فهي لم تذهب بعيدًا بتوسيع الحدث القصصي وإنما حصره في عنصر ( الوحدة ) فكانت لكل كلمة وظيفتها بدون حشو أو تمهل، بل سعت لأن تكون السهام جاهزة للانطلاق من أول جملة قصصية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى