حسن حماد: ثقافة الإنحطاط تحولت من ثقافة هامش إلى ثقافة سلطة

محمد الحمامصي

يؤكد د. حسن حماد أستاذ ورئيس قسم الفلسفة والعميد السابق لكلية الآداب جامعة الزقازيق أن دوائر التحريم في حياتنا كثيرة ومتعددة ومتنوعة ومتحركة، تتسع تارة وتضيق تارة أخرى، تتقاطع وتتداخل وتتماس مع بعضها البعض بصورة دائمة، وربما تتطابق أحيانا، وأن الإقتراب منها هو اقتحام لمناطق فكرية محظورة، والكتابة عنها مغامرة خطرة بقدر خطورة وحساسية الموضوع.
ويسعى في كتابه “دوائر التحريم” إلى تفكيك وتحليل ونقد ثلاث دوائر هي: دائرة السلطة ودائرة الجسد، ودائرة المقدس. والدوائر الثلاث متشابكة فيما بينها بصورة يصعب مناقشة أي منها بمعزل عن الآخر، فهناك علاقات سرية وخفية ومبهمة وغامضة تتم فيما بينها. فالدائرة الأولى وهي السلطة (خاصة السلطة بمعناها السياسي) إذا ما كانت سلطة دنيوية ستبدو سلطة مدنسة من وجهة نظر لاهوتية، أما إذا امتزجت بالدين ستصبح سلطة مقدسة ومطهر لأنها ستحكم حينئذ باسم الإله. أما الجسد بشكل عام فينتمي إلى دائرة المدنس إلا أنه قد يكتسب صفات المقدس بالوضوء والصلاة والنظافة والغسل في حالة الموت، أما الدائرة الأخيرة وهي المقدس فظاهريا تبدو مبرأة تماما من كل ما ينتمي إلى دائرة المدنسات سواء شملت هذه الدائرة الأخيرة ما هو إنساني أو ما هو نجس.
ويشير حماد إلى إن المحرم هو دائرة التقاء المقدس بالمدنس، ويقول “من الأشياء الغريبة التي يمكن ملاحظتها في الثقافات القديمة أن الخطر الذي ينجم عن ملامسة الكائنات المقدسة هو نفس الخطر الذي ينشأ عن ملامسة الأشياء النجسة أو المدنسة، فالمحظوارت التي تقي من النجاسة هي نفسها التي تعزل القداسة وتصونها من خطر الاختلاط بما هو مدنس، فمن الأسباب التي تسبب النجاسة في معظم الديانات: الدم خاصة دم الطمث أو الحيض، وكافة الأشياء التي تخرج من الجسم مثل المني والبول والبراز والصديد… إلخ، وأيضا يمثل روث الحيوانات واحدا من مصادر النجاسة. وثمة أحكام دقيقة تحدد أنواع التماس اللامباشر التي يمكن أن تنقل عدوى النجاسة بمجرد لمس أشياء معينة، فالنجاسة تظل عالقة بالملابس القطنية وأواني الطبخ المعدنية والأطعمة المطبوخة ولكن من حسن الحظ أن الماء والأرض لا يقومان بنقل النجاسة”.
ويضيف أن مصادر النجاسة تتعدد في الثقافات المختلفة بحيث يصعب إحصاؤها، فهي تختلف باختلاف الشعوب والمجتمعات، ومنها ما يحظى بواسع انتشار، ولكنها جميعا تنفق في خطورة الاقتراب منها أو ملامستها، ومن الأمثلة الصارخة على الاحتياطات الرهيبة التي تمارس لدى بعض القبائل لتجنب النجاسة، ذلك المثال الذي يذكره “روجيه كايو” والمتعلق بطريقة التعامل مع المرأة أثناء فترة الحيض، ففي بعض القبائل يتم نفي الفتيات عند بلوغهن، ويتم نفيهن عند حيضهن إلى كوخ بعيد أقيم خصيصا لهذه الغاية ثم يمنعن من مغادرته ما دمن على هذه الحالة، وما لم يخضعن لعملية تطهير طقسية تذهب بكل أثر لما كان.
وفي هذه الأثناء تتولى النساء المتقدمات في السن ـ بحكم أنهن يتمتعن بالمناعة المطلوبة ـ بعملية إعداد الطعام وحمله إليهن، ثم يتم التخلص من الأواني التي أكلت فيها السجينات، فتكسر وتدفن بعناية في التراب، أما مسكنهن فيكون محكم الإغلاق إلى درجة أن بعضهن يموت اختناقا بسبب انعدام النور والهواء، وذلك تلافيا لإصابة أشعة الشمس بالدنس في حال سقوطها عليهن، وإن كان يكتفي في بعض الحالات بأن يطلب منهن طلاء وجوههن باللون الأسود تحقيقا لهذه الغاية. وغالبا ما يتم وضع الكوخ الذي يقمن فيه على منصة عالية منعا لإصابة الأرض بعدوى النجاسة، وكان من الأفضل أن ترفع المرأة الحائض على أرجوحة طيلة فترة حيضها، باعتبار أن هذه الطريقة تحقق شروط عزلة شبه كاملة ومطلقة.
ويوضح حماد أن المحظوارت التي تقي من النجاسة هي نفسها التي تحمي القداسة، فالثقافات التي تضفي على الملوك صفات إلهية تقوم بعزل القداسة التي يتمتع بها الملك الإله بعيدا عن المس واللمس، فالملوك في الحضارة المصرية القديمة كانوا في مرتبة الملك الإله بوصفهم من سلالة الإله الأعظم “رع “، ولذلك كان شخص الفرعون الإلهي أقدس من أن يخاطبه أحد بصورة مباشرة فمن كان بشرا عاديا لا يستطيع التكلم مع الملك، إنما يتكلم في حضرة الملك، وعلى المرء أن يلجأ لأساليب ملتوية ومراوغة ليتجنب الإشارة المباشرة للملك مثل: “فلتسمع جلالتك ” بدلا من “فلتسمع” أو “يصدر أحد الأمر” بدلا من “يصدر هو الأمر”.
ومن الطبيعي أن يتوازى تجنب التماس اللفظي مع جلالة الملك بالتماس الجسمي بشخصه، فلا يجرؤ أحد على الدنو من شخص الملك أو حتى من الأشياء التي يستخدمها، فويل لمن مسه حتى صولجان الملك. فكل ما هو جزء من شخص الملك، كظله مثلا مترع بالقداسة؛ لذلك كان جسد الملك خطرا على البشر العاديين فيما عدا الخدم والكهان الذين يعملون في خدمة الملك، فهم في مأمن من الأذى الماحق الذي ينجم عن اتصالهم بالإله.
ولم تكن عقيدة عزلة الملك المقدس قاصرة فقط على الفرعون المصري فالملك الإله من نوع “الميكادو” (لقب أمبراطور اليابان) كالمرأة الحائض لا يجوز له ملامسة الأرض أو التعرض لضوء الشمس. وعندما كان الميكادو يلتفت بشيء من التركيز إلى جهة معينة كان يعتقد أنه سوف ينزل أبشع الكوارث بالمناطق التي خصها بدفق نظراته الجارف. وليس هذا فحسب بل إن الأشياء التي يستخدمها والتي يتم إعداد طعامه فيها يتعين تكسيرها ودفنها حتى لا يستعملها في أثره غافل فيصاب فمه وحلقه بالتورم والتقرحات.
ويقول د. حماد أن أمر كلمة “محرم” في اللغة العربية لا يختلف عن اللغات الأجنبية الأخرى، فهي أيضا كلمة ذات دلالة مزدوجة تشير إلى كل المقدس والمدنس أو الطاهر والنجس معا، فلسان العرب لابن منظور يذكر أن كلمة “الحرام” نقيض “الحلال”، “والحرام: ما حرم الله” “والحريم: ما حرم فلم يمس. والحريم ما كان المحرمون يلقونه من الثياب فلا يلبسونه”.
وكان من عادة العرب في الجاهلية إذا حجت لبيت الله تخلع ثيابها التي عليها ولا يلبسوها ما داموا في الحرم، وكانت المرأة تطوف عارية أيضا إلا من سيور لا تستر عريها وكان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت عراة ويقولون لا نطوف بالبيت في ثياب قد أذنبنا فيها”.
ويرى أن الحرام في الإسلام هو تلك القوة الخطرة التي تكمن في المقدس والمدنس معا برغم العزلة المفروضة على كل من الجانبين في القرآن، وبذلك فإن الإسلام يمضي في نفس النهج الذي مضى فيه أصحاب العقائد القديمة في تعبيرهم عن المقدس والملعون بكلمة واحدة هي الحرام، ولئن كان البعض يخلط بين المحرم والمقدس، إلا أن مجال المحرم أكثر اتساعا من مجال المقدس لأن مجال المحرم يشمل الطاهر والنجس معا، فيما يقتصر الدين عادة على محور الطهارة أو القداسة.
ويضيف إن الله في الإسلام هو فقط المنوط به تحديد دائرة الحلال والحرام، لكن واقع الممارسة الدينية يؤكد أن الفقهاء وأتباعهم على مدار التاريخ الإسلامي وحتى كتابة هذه السطور قد اغتصبوا هذه السلطة المطلقة لله ونسبوها لأنفسهم فيما يعرف بالفتاوى التي اتخذت لدى المسلمين المعاصرين طابعا فوضويا وعبثيا فأصبح بوسع أي أحد أن يمارس وظيفة الإفتاء بمجرد أن ينضم إلى أحد الجماعات الإسلامية أو ينتسب إلى مؤسسة الأزهر، وبذلك اتسعت دوائر التحريم لتنال كافة التفاصيل الصغيرة في حياة المسلم بدءا من الأفكار والأخيلة ومرورا بالكلمات والألفاظ ووصولا إلى الأفعال والسلوكيات التي يمارسها في حياته اليومية، ومن ثم فقد أضيفت محرمات جديدة إلى المحرمات المذكورة في القرآن بعضها مستمد من السنة النبوية وبعضها مستمد من سير الصحابة والتابعين ومعظمها من صنع شيوخ الفتاوى والتحريم، ومن ابتكار خيالاتهم المريضة، فمن هذه الفتاوى تحريم الأغاني والأفلام والمسرحيات وكافة أنواع الفنون التشكيلية بوصفها وسائل تحرض على الفحشاء وأدوات للإلهاء والانشغال عن الأمور الدنيوية.
ومن التحريمات المألوفة لدى المتشددين ظهور المرأة في المجال العام، ذلك أنهم يحرمون كل ما يمت للمرأة بصلة: صوتها، رائحتها، وجهها، جسدها، ولذلك ينبغي توخي الدقة في عزلها وحجبها وتصميتها بوصفها عورة ينبغي سترها. أيضا من التحريمات الجديدة تحريم الديمقراطية والعلمانية والاشتراكية بوصفها بدعا صليبية كافرة، ولكن لأن الضرورات تبيح المحظورات لذلك لا مانع لدى الأصولي من أن يستخدم المسلمون الديموقراطية كمطية للوصول إلى السلطة ثم بعد ذلك يتم التخلص منها إلى الأبد.
ويشدد د. حماد على أن دوائر التحريم ليست قاصرة فحسب على السلطة الدينية، ربما تكون السلطة الدينية هي أكثر السلطات قدرة على تعزيز المشاعر التحريمية، لأن المعتقدات الدينية إذ تنفذ إلى قلب وأعماق الإنسان تتحول إلى سلطة باطنية مطلقة لا يجب مناقشتها ولا يجوز فهمها. أما السلطات الأخرى التي تنافس السلطة الدينية في فرض تحريماتها ومحظوارتها، فيأتي في مقدمتها السلطة السياسية بكل مؤسساتها وأجهزتها وأدواتها إلى جانب السلطة الاجتماعية الممثلة في العرف والتقاليد، وسلطة الرأي العام والسائد والمألوف.
إن هذه السلطات كثيرا ما تدخل في منافسة وصراع مع السلطة الدينية من أجل فرض نموذجها ومثالها التحريمي على الأفراد والجماعات، ولكن عندما تكون السلطة السياسية والسلطات الثقافية والتربوية التابعة لها في حالة من الضعف والهشاشة والرخاوة، هنا تصبح المؤسسة الدينية لها الكلمة العليا في حياة الإنسان، فهناك علاقة طردية ما بين القمع السياسي والتشدد الديني، فكلما تقلصت مساحة الحرية اتسعت دائرة الإرهاب والتطرف الديني، وبالتالي تتسع دوائر التحريم بحيث يصبح التفكير جريمة تساوي التكفير، ويصبح كل جديد أو تجديد بدعة وضلالة ينبغي قذفها في النار.
في دراسته الأولى “اللغة والسلطة” كشف د. حماد عن ذلك التواطؤ الخفي بين ثقافة المهمشين والثقافة الأصولية، وبرغم أن الأولى تنتمي إلى دائرة المحرمات المدنسة، والثانية تدعي الانتساب إلى المحرمات المقدسة، إلا أن الدراسة تؤكد أنهما يلتقيان على أرض واحدة هي ثقافة الانحطاط وهي ثقافة تتشكل من مفردات تبدو ظاهريا غير متجانسة مثل: الهوس الديني، الابتذال اللغوي، الهوس الكروي والإسفاف الفني. وهي ثقافة لم تعد قاصرة على المهمشين فقط، بل امتدت إلى الطبقة الوسطى إلى فئات الطبقات الأعلى، بمعنى آخر فإن ثقافة الإنحطاط تحولت من ثقافة هامش إلى ثقافة سلطة وأصبحت تمارس تأثيرا موازيا لسلطة الدولة وربما تتفوق عليها.
إن ثقافة الإنحطاط لا تتناقض بأية صورة مع الثقافة الأصولية لأن كليهما ينبع من مصدر واحد هو: “البعد الهمجي في الإنسان”، وكليهما يمكن أن يؤدي إلى الآخر، فالانحطاط الثقافي والأصولية وجهان لعملة واحدة هي الطغيان أو الاستبداد بكل أطيافه الدينية والسياسية والثقافية.
ويؤكد أنه برغم الوعي بجدلية السلطة وتداخلها وتنوعها إلا أن أخطر أنواع السلطة التي يمكن أن تمارس قهرها على الإنسان هي السلطة اللاهوتية السياسية. هذه السلطة تمارس نوعا من القمع الرهيب الذي يستند إلى سلطة الإلهي أو المقدس، وهي في نظرنا أعتى وأصعب أنواع السلطة لأنها تستند لكلمات وجبروت وإرادة الرب، ومن ثم فإنها تصبح سلطة أبوية مطلقة لا تكتفي فقط بالسيطرة على المؤسسات السياسية والاجتماعية، بل تمتد سلطتها القاهرة لتفتش في الضمائر والسرائر وتسيطر على العقول والأنفس والأبدان.
وجاءت الدارسة الثانية في القسم الأول من الكتاب لتؤكد أن قتل الأب بدلالاته الرمزية المتعددة هو المقدمة الضرورية للتمرد والتحرر الإنسانيين. وهكذا فإن الدارسات التي يتضمنها كتاب “دوائر التحريم” تشكل محاولة لانتهاك دوائر القمع الجهنمية التي تحاصر الإنسان العربي وتسلبه حقه في الحياة، ومن ثم فإنه كتاب يدافع عن الحرية بوصفها القيمة النهائية للإنسان، وبوصفها السبيل الأوحد أمام الإنسان للتحرر من كافة أوهامه اللاهوتية والسياسية.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى