عندما يجتمع فن بيار تال كوت وشعر أوجين غييفيك

اوراس زيباوي

مكان خلاب يتوسط منطقة ساحرة بجمالها هي منطقة بروتانيه Bretagne الفرنسية. إنه ما يعرف بقصر وحدائق كيرغينيك Domaine de Kerguéhennec التي يرجع بناؤها الى القرن الثامن عشر وتشكل جزءاً مهماً من الموروث المعماري الفرنسي. ومنذ مطلع سبعينات القرن العشرين، صار القصر بحدائقه تابعاً للدولة الفرنسية، وسجل عام 1988 على لائحة الصروح التاريخية الوطنية وتحول منذ ذلك الحين أيضاً إلى مركز ثقافي مخصص للإبداعات الحديثة والمعاصرة.
في هذا الموقع المتفرد، تقام حالياً مجموعة من النشاطات والمعارض منها معرض يجمع بين النتاج الفني والشعري للفنان بيار تال كوت (1905 – 1985) والشاعر أوجين غييفيك (1907 – 1997) الذي عرفه القراء العرب من خلال ترجمات عدة، منها ما أنجزه الشاعران أدونيس وشوقي عبد الأمير. والجامع بين الراحلين تال كوت وغييفيك هو انتماؤهما الى منطقة بروتانيه وانشغالهما معاً بمرحلة ما قبل التاريخ واستيحاؤهما من آثارها الفنية. أضف إلى ذلك أنهما من جيل واحد من القرن العشرين ومعروفان على المستوى العالمي. ولا بد من الإشارة إلى أن الآثار الفنية لمرحلة ما قبل التاريخ تجد مسرحاً لها في منطقة البروتانيه ويقصدها ملايين السياح سنوياًَ، وهي على شكل أنصاب حجرية وتشكل نماذج من أقدم ما بلغنا من تصورات الإنسان الأولى في مجال العمارة والتي يعتبرها العلماء بمثابة تكتلات تعبر عن طقوس إنسان ما قبل التاريخ وعلاقته بالماوراء.
يضم المعرض إذاً أعمالاً لتال كوت وقصائد ونصوصاً لغييفيك، وكذلك بعض الآثار التي ترجع إلى مرحلة ما قبل التاريخ والتي تمثل أنصاباً أو قطعاً صغيرة من حجر الغرانيت. إذا ما اقتربنا من تلك الأحجار وحدقنا في النقوش التي حفرت عليها، نجد الى أي مدى تتماهى أعمال تال كوت معها. فتلك الحركات والدوائر والطلاسم المنقوشة على الحجر القديم، تطالعنا وفق رؤية فنية مبتكرة في أعماله، مضافاً إليها ذاك البعد الماورائي الذي نجح الفنان في تجسيده.
محاكاة هذه الأعمال نتلمسها أيضًا في قصائد غييفيك الذي يذهب بعيداً في تمثل تلك الحقبة وأنسنتها والإعلان عن انتمائه إليها كما جاء في مقابلة أجريت معه ونشرت في كتاب صدر في باريس عام 2007. يقول: «أنا رجل من مرحلة ما قبل التاريخ وأعيش في تلك المرحلة». وتتبلور هذه الرؤية في نتاجه الشعري الذي يعبر عن هذا الموضوع والذي كرس له قصائد وكتباً بأكملها. كأن نسمعه يقول في كتابه «حفر» الصادر عن دار «غاليمار» عام 1987: «في الحقيقة، مرحلة ما قبل التاريخ لا تتركه أبداً/ يقول أحياناً إنه يحمل في ذاته الهيكل العظمي للإنسان الأول وكم هو ثقيل هذا الهيكل». وفي كتاب آخر بعنوان «أنصاب ما قبل التاريخ» قال الشاعر: «نحن الثبات داخل الحركة ونعبر الزمن». وفي موضع آخر يتابع «العالم يترك الأنصاب القديمة ويعود إليها. هنا، وجدت السماء مكانها».
بعد جولة في هذا المعرض الذي يجمع بين مبدعَين كاشفا تفاعلهما الخاص مع المكان والزمان، هذا المعرض الذي يستحق أن يجوب مطارح وعواصم عدة، التقينا في الحدائق المحيطة بصالات العرض أوليفييه دولافالاد، المسؤول عن هذا المركز الثقافي في وسط الطبيعة الفرنسية، فحدثنا عن هذا الفضاء الثقافي الذي يتآخى فيه التفكير والتنزه وقال إنه ملتقى الفنانين ومستوعَب للمجموعات الفنية المختلفة ومركز للمعارض واللقاءات والتواصل. إنها قوة الفن وقوة الأعمال الفنية في صلتها مع الأمكنة التي تستوحي منها والتي تستقبلها الآن.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى