صور تجليات الحبّ وإيقاعاته في «قمر الأعالي» للمغربية العزيزة الشمشام

محسن اخريف

تتشكل مجموعة «قمر الأعالي» (2016 مكتبة سلمى الثقافية) للشاعرة المغربية العزيزة الشمشام من تسعة وأربعين نصا شعريا، تتخذ فيها موضوع الحب ثيمة رئيسة ووحيدة، ما يجعل هذه النصوص في مجموعها تشكل مجموعة شعرية متكاملة من خلال وحدة الأثر الذي تُحِدثه في المتلقي، وبالتالي فهي مجموعة نأت بنفسها عن المطب الذي يقع فيه كثير من المجاميع الشعرية، التي على الرغم من لمٍّها بين دفتي كتاب إلا أنّها تظل في ميزان القراءة مجرَّدَ تجميعِ نصوصٍ لا رابطَ بينها.
لقد ظلت ثيمة الحب على الدوام الثيمة الأثيرة والمفضلة لدى الشعراء، بل لعلها العتبة الأولى لجُلّهم قبل التّنسك في محراب الشعر الصافي. وهي ثيمة جاذبة يغادرها الشعراء في مقولهم الشعري، ثم ما يلبثون أن يعودوا إليها عبر نصوص مفردة أو عبر مجموعات. ولا تعوزنا الأمثلة للاستدلال على هذا من تاريخ الشعرية العربية والكونية، فنزار قباني لم يبرح بيت الحب، أما محمود درويش فقد شرب الحب من عيون ريتا، ثم عاد إليه في نصوصه الأخيرة، وغيرهما من الشعراء. ومرد هذا طبعا إلى الطابع الحسي لموضوع الحب المشترك بين الناس، ولاسيما الشعراء منهم لجيشان انفعالاتهم ورقة أحاسيسهم، فضلا عن امتلاكهم وسيلة للتّعبير عن ذلك كاللغة الرقيقة والخيال والتشكيلات البلاغية والإيقاعية.
ومن هنا فمقاربة «قمر الأعالي» سيؤطرها قول أدونيس في كتابه «مقدمة للشعر العربي»، «القصيدة شكل إيقاعي واحد أو كثير، ضمن بناء واحد، لكن الشكل الإيقاعي وحده لا يجعل بالضرورة من الكتابة أثرا شعريا، فلا بد من توفر شيء آخر هو البعد أي الرؤية التي تنقل إلينا أو مادتها أو شكلها الإيقاعي». والحقيقة أن ما يقود إلى استحضار هذا التأطير هو انسجامه مع نصوص الديوان، فالشاعرة العزيزة الشمشام شيّدت رؤاها الشعرية، التي نستشفها من منطوق قصائدها، في قالب إيقاعي آسر. فمنذ مفتتح هذا الديوان جعلت الشاعرة الحبّ مسلكها في الحياة وتعبيرا عن وجودها، تقول في قصيدة «مهد الحب».
يعلّمنا الحب/ معنى الكلام
متى نرسم الحرف/ على وجه الغرام.
فالذات الشاعرة مشغولة بحياكة نسيج القصيدة العاشقة بحلو الكلام، الذي لا يكتمل العشق إلا به، أليست الشاعرة هي القائلة ذاتَ قصيدةٍ في الديوان:
تناثرت الكلمات
لملمتُ
شتات قلمي
لأصنع الحب
وأسجله في دواوين العشق.
وأيضا في قصيدة أخرى:
ما لذة الحبّ إن لم تكن
تغرّد فوق الحروف.
بل نجدها في قصيدة بعنوان «بداية»، وهي قصيدة أتت في منتصف الديوان، (وكان حريا أن تكون في أوله) تُقسِمُ بالحبّ:
قسما بحبك/ وبالهوى المجنون
وبالليل والنجوم/ بحنين القلب
ودمع العيون.
وعلى الرغم من ثيمة واحدة في المجموعة، وهي الحب، غير أن هذا الأخير لا يأتي في «قمر الأعالي» على صورة واحدة، بل على صور عديدة. فما هي إذن تجليات الحب في هذا الديوان؟
1 ـ صور الحب في قمر الأعالي:
تنتمي نصوص مجموعة «قمر الأعالي» إلى الشعر الشفيف، أي غير المنغلق على معانيه ودلالاته، فهو يهبك منذ لحظة القراءة الأولى ما يُمتِع الوجدانَ، ومع القراءة الثانية والثالثة تتبدى جواهره ولآلؤه المضيئةُ بالمعاني، حيث يتمظهر الحب ويتبدى في تجليات متعددة ويتخذ أشكالا كثيرة، إذ يتجلى في شكل الشوق، وفي شكل الحنين، وفي شكل التوحد مع المحبوب، ثم في شكل الهجران والوداع حين يمارس الحب لعبةَ الحضور والغياب، وهذا ملمح آسر في هذه المجموعة، خاصة أن الشاعرة العزيزة الشمشام عبّرت عن هذه المعاني بلغتها الشعرية الشفيفة والأخاذة. ويتخذ الحب الشكل الأخير، أي شكل الهجران والوداع والغياب، في قصيدة: «نبيذ الوداع» تقول الشاعرة:
إرحل صامتا / لا تودعني / عند المغيب/ مزق أحرفي/
راضيةٌ أنا بالقرار/ ارحل باكيا/ نبيذ الوداع / يسكرنا معا.
وكثيرا ما تجلى الحب شوقا، ومن أمثلة ذلك قول الشاعرة في قصيدة «وجع الوتر»:
يغرز الشوق بداخلي خنجرا
يمزق ثوب الصبر
كما يتخذ صورةَ طلل في القلب فيجئ حنينا، حين تنشد الشاعرة في قصيدتها «وحي الحنين»:
صدى صوتك لهيب نار / أجمعُ أفكاري/ طوال النهار
حطبا للأشواق حين/ يدب نسيم الحنين.
ويتخذ الحب والمحبوب معا صورة المتوحد مع الذات الشاعرة، وهذا يظهر في قصيدة «أنشودة»:
يعزف أنشودة المساء / يهمس سكون الليالي
تراتيل العاشقين/ وفي صمت الصمت
تتعانق وريقات الجوى/ ترق الكلمات
يختال الليل فرحا/ ترتعد شجيرات الزيزفون
راقصة على إيقاع اللقاء.
غير أن صبر الذات الشاعرة على المحبوب ينفذ في قليل من نصوص «قمر الأعالي»، حيث ستجرب بداية بلاغة الحذف في قصيدة «أنثى»:
سأرسل لك / في كل لحظة عبارة/ أشتاقك/ ولكني أنثى
فالمتلقي القارئ مطالب باستشفاف المعنى ومضاعفة الدلالات وتوليدها من هذه الجملة الشعرية. ومن المعاني المتولد عن هذا الحذف: لكني أنثى لا أقوى على التعبير أبعد من هذا، وقد يضيف كل الصفات التي قد تتلبس الأنثى العاشقة. ثم تجرب هذه الذات التمرد وتكسير طاعة الحب، لكنها تفعل ذلك بحياء وتردّد، تقول ـ على سبيل التمثيل:
تلعْثمت قدماي/ وبرشفة قهوةٍ ساديةٍ/ دمَّرتُ سكَّة الانتظار.
فهنا الشاعرة جعلت القدمين تأخذان صفة اللسان أو الكلام، فتمردها لن يكون بالابتعاد، وإنما بمبادلة الصمت بالصمت. وهذا ما تعبر عنه بوضوح في قصيدة «أنامت عيناك؟»
سأصمتُ أنا أيضا / والويل لكلام / قد يُدمي الفؤاد
في حمأة مخاطباتها للرجل في كل قصائد الديوان، تعطي الذات الشاعرة لنفسها فسحة لمخاطبة بنات جنسها في قصيدة عنونتها «إلى حواء»، وهي القصيدة الوحيدة في هذه المجموعة التي تتوجه فيها بالخطاب إلى أنثى، كأنها رسالة إلى الذات. تقول الشاعرة في هذه القصيدة:
أنثى أنا/ ولدتُ/ من رحم التاريخ
وفوق الثوب الأبيض / نقشتُ بطولاتي
….
شبيهةُ الليلِ/ كلَّما أقمر.
ومن هنا فنصوص «قمر الأعالي» كتابةٌ تنطلق من الذات وتلوذ بها وتفيء إليها لتشيّد شعرية موسومة بالذاتية المفرطة، تنساب في دفق وجداني، اتخذ من التصوير والصورة الشعرية وعاء لتعبير الذات الشاعرة عن أحاسيسها ولواعجها، وهي صور تختبر هشاشة هذه الذات أمام واقع تتصادم معه.
تزمين الإحساس
إن المتأمل لقصائد ديوان الشاعرة العزيزة الشمشام يلاحظ أن هنالك التحاما بين أحاسيس الذات الشاعرة وأوقات اليوم؛ فاللهفة والحب وتصاريفهما لهما ارتباط وثيق بلحظات اليوم:
أقبل المساء
اشتدت لهفتي
وتختم الشاعرة المقطع بعلامة استفهام، دلالة على استغرابها ومساءلتها لهذه المتلازمة العاطفية مع وقت من اليوم وهو المساء.
وعطفا على هذا المنوال، تقول الشاعرة في قصيدة «وجع الوتر»:
تؤرقني المسافات
يعزف المساء
على أوتار الوجع
ومن هنا يغدو العنوان دالا، فـ»قمر الأعالي» ليس سوى ذلك المحبوب الذي ينبلج بين الغيوم في حالك الليل أو في أول المساء كي يضيء ليل الحبيبة وليل الشاعرة، و»قمر الأعالي» هو العشق والمعشوق، فكلاهما وجهان لإحساس واحد. فالقمر لا يظهر إلا ليلا والذات الشاعرة لا تستكين إلى المحبوب إلاّ في لحظات الوحدة. أمّا طيف العشق فهو طيف العاشق. تنشد الشاعرة: في قصيدة «طيف العشق»..
سأغفو على طيف
لاح كالقمر.
….
إيقاعات الحب إيقاعات الشّعر
إن ما يَلفت النظر في هذه المجموعة الشعرية أيضا هو الإيقاعية التي انبنت عليها النصوص، فلم تركب الشاعرة مركب المتقشّف في هذا الجانب، وقد فعلت الشاعرة هذا بتفرد ظاهر، فنصوص «قمر الأعالي» متحررة من ضغط الإيقاع المفتعل، إنه إيقاع أتى عفو الخاطر والقلب، ولم تتقصده الشاعرة قصدا. هو إيقاع داخلي يأسر أذن السامع، إيقاع ينبني على تكرار الحروف والبنيات اللغوية، وينتج عن ما ينشأ بين الكلمات من علاقات عن طريق التجاور. ولن أجد مثالا أستدل به على هذا الحكم خيرا من قصيدة «قمر الأعالي»:
أتدري / ما قد نزل /بحالي؟
يقتلني هواك/ وأنت لا تبالي..
كم أسهدتني / يا حبيبا / في الليالي؟
وأنت الساكن / في قلبي / كالقمر في الأعالي..
وأخير، وعلى سبيل الختام، فنصوص «قمر الأعالي» تنبض بملامح وجماليات فنية أخرى وتشابكات استعارية ودلالية عديدة، استطاعت بها الشاعرة أن تخلق عالما شعريا متناغما ومنسجما، مما يعد بأعمال أخرى آتية بزخم شعري أنضج.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى