دلالات دينية في فيلم «بالتازار»: الحمار الخيّر والإنسان الشرير

سليم البيك

ضمن البرنامج الذي يفتتح به سينماتيك تولوز موسمه الحالي (2017- 2018)، عُرض فيلم للمخرج الفرنسي روبير بريسون، هو «Au Hasard Balthazar» (1966)، أو كما هو بالإنكليزية «بالتازار»، وهو اسم الحمار بطل الفيلم، إذ نشهد مسيرة حياته منذ وُلد إلى موته. الفيلم من بين أهم كلاسيكيات السينما الفرنسية والعالمية، هو معروض هنا ضمن برنامج «الأفلام التي لا بد أن تكون قد شاهدتها»، وهو يحتل المرتبة 16 في لائحة مجلة ”سايت أند ساوند» لأفضل فيلم في التاريخ، متقدماً على العديد من الأفلام، قد نذكر الأفلام الثلاثة التي تتبعه مباشرة للدلالة على أهميته: «الساموراي السبعة» لأكيرا كوروساوا، «بيرسونا» لإنغمار بيرغمان، «المرآة» لأندريه تاركوفسكي.
الفيلم الذي كتبه بريسون والمستوحى من رواية فيودور دوستويفسكي «الأبله»، وجعَله من بطولة ممثلين غير محترفين، منهم بطلته، إلى جانب الحمار، آن ويازمسكي التي ستصير ممثلة محترفة لاحقاً والتي رحلت مؤخراً (هي روائية كذلك، من كتاب لها تم تصوير فيلم «المريع» الذي عُرض مؤخراً في الصالات الفرنسية، الذي تروي فيه قصّتها مع المخرج الفرنسي جان لوك غودار).
يأتي «بالتازار» في منتصف السيرة الفيلمية لبريسون، محافظاً فيه على أسلوبه السينمائي، من حيث التصوير والممثلين والنبرة الهادئة التي تسود الفيلم. من بينها التصوير من مستوى واطئ للكاميرا، لكنّه أضاف إليه تصويراً زائداً، فالكاميرا الواطئة توجّهت في كثير من الحالات نحو الأرض ونحو أطراف الأشياء أو نحو أجزاء من الأجسام المراد تصويرها، غير مستقرّة، كأنّ الفيلم كلّه هو رؤية الحمار إلى العالم، لا رؤيتنا نحن المشاهدين، أو أيّ إنسان آخر يمكن أن يثبّت نظره على ما يراه، أي رؤية الإنسان إلى ما يجري مع الحمار، ما جعل الفيلم ذاتياً. الحمار الذي لا يحسن التكلّم، يروي سيرتَه من خلال الكاميرا، من خلال عينيه، من خلال مُشاهدتنا لما يشاهده هو، إضافة إلى مشاهدتنا إليه يمرّ في مراحل حياتية مختلفة.
في الفيلم بعدٌ إنساني أتانا من خلال هذا الحيوان الذي يُفتتح الفيلم به صغيراً ويحتفي به أطفال يطلبون من أبيهم شراءه. يفعل الأب ويصير الحمار الصغير طفلاً آخر، تقوى علاقة الحمار مع الطفلة، تنقطع المشاهد الأولى زمنياً لتمرّ السنين، كما يُكتب على الشاشة، ويكبر الجميع، الطفلة تصير صبيّة والحمار اللعوب يصير شغّيلاً لدى غرباء.
تنفصل الطفلة عن الحمار إنّما يبقيان في القرية ذاتها، فيلتقيان في أكثر من مكان ولدى أكثر من مالك للحمار، ما يجمعهما – وهنا أساس الفيلم- هو الوحشية في تعامل الكبار معهما، الحمار يتم تناقله من مالك لآخر، الجميع يقسو عليه، والصبية التي ما تزال تملك هيئة الطفلة، تتلقى معاملة قاسية من الأفراد أنفسهم، وهم جميعاً كبار ورجال. فالفيلم إن كان يظهر وحشية الإنسان الواعي الرّاشد والذّكر، فهو يظهرها كمقابل لبراءة وهشاشة وعجز كل من الحيوان والطفل، أو تحديداً الطفلة. بهذا المعنى الفيلم إنساني بأقصى حدوده، إنساني بتصوير ذاتي لحياة الحمار، إنساني بقدر ما الضّعيف إنساني وليس القوي والقادر والمتحكّم.
يزخر الفيلم بإحالات مسيحية: الخبز والخمر والحمار نفسه، بل واسمه، وأساساً طوق الأزهار الذي تصنعه الصبية، التي اسمها كذلك ماري، وتضعه على رأس الحمار، مذكّراً بطوق الشّوك على رأس المسيح. وفوق كل ذلك تقديس الهشاشة والفقر والضعف الذي ميّز ماري وبالتازار عن الجميع، وليس ذلك ببعيد عن بريسون الكاثوليكي، الذي أشار مباشرة إلى البعد المسيحي لفيلمه، في مقابلة تحدّث فيها عنه. ولأن الفيلم يتبع الحمار في رحلته/حياته، ولأنّ الأخير يتم تناقله بين أشرار، يمتلئ الفيلم بأحداث متتابعة سطحية، وشخصيات ثانوية عديدة، فلا حكاية، إنّما مراقبة الحمار، بل مراقبة صمته، وهو صمت العاجز، إزاء وحشية الإنسان.
الحياة المتقشفة التي صوّرها بريسون، اللقطات القصيرة والإطارات غير الثابتة وتلك الخارجة تماماً عن موضوع التصوير، إدخال أصوات توحي بما يحدث خارج إطار الكاميرا، كأنّ الكاميرا هي رأس الحمار العاجز حتى عن إدارة رأسه، وعن إدراك الضجيج الذي يسمعه. سذاجة الأداء لدى الممثلين، وضوح الفوارق بين مَن الخيّر ومن الشرير، توحّد ماري وبالتازار بضعفهما أمام الآخرين، وتماثلهما في التنقّل من سيّد لآخر، لا يملكان غير غريزتيهما، هي كطفل/صبية ساذجة وهو كحيوان مغلوب على أمره، يُضطهدان ويُعذّبان، هي تُغتصب وهو يُحرق ذيله، كل ذلك، شكلياً وموضوعياً، جعل الفيلم رسالة إنسانية خالصة وفنّية خالصة، يصوّر العنف والوحشية التي أمكن للإنسان أن يصلها.
الفيلم يضع المُشاهد أمام المشاعر الأساسية المتناقضة، بدون تعقيد، أولها الحب مقابل الكراهية، والبطل هنا حيوان، يجد من يحبّه ويجد كذلك من يكرهه، من يعطف عليه ومن يقسو عليه، ليموت أخيراً، كأي بطل تراجيدي. نراه مصاباً في ساقه، بعدما حاول الهرب. يجلس بين خراف يجرّها راعيها، تبتعد عنه، يبقى جالساً، يستلقي ويموت صامتاً ووحيداً.
أفضل تلخيص للفيلم هو ما قاله جان لوك غودار، المخرج الفرنسي، أن الفيلم هو «العالم في ساعة ونصف الساعة».

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى