«فنان من العالم الطليق» لكازو إيشيغورو … بعد الحرب

شريف صالح

أشارت الأكاديمية السويدية في حيثيات فوز كازو ايشيغورو بنوبل الآداب إلى اسمي كافكا وجين أوستن. ومن يطالع روايات ايشيغورو القليلة نسبياً سيشعر أنه عالق بين ثقافتين، فكاتبنا ينتمي إلى تقاليد العزلة والتأمل اليابانية، مثلما ينتمي إلى الرصانة الإنكليزية.
وإن كانت الأكاديمية اتخذت كافكا مثلاً، للإشارة إلى حداثة نصه، واقتصاد عباراته، ومسحة الغموض، وملامسة الخواء… فكل تلك السمات لها حضورها في الأدب الياباني الذي يتسم أيضاً بالدقة والقوة التصويرية، مع لمسة شاعرية.
ليس القصد من ذلك نفي تأثره بالأدب الإنكليزي، خصوصاً أنه اختار الإنكليزية لغة او وطناً، وكثيراً ما يشير إلى علاقته المحدودة جداً باليابان وثقافتها. لكن ثقافة اليابان حاضرة بين ثنايا سطوره، ربما أكثر مما يتخيل الكاتب الذي عاش طفولته بعد عقد من إلقاء القنبلة الذرية على مسقط رأسه: ناغازاكي.
ومثل كبار أدباء اليابان الذي انشغلوا بأفول الروح الشرقية، مقابل سطوع النسق الغربي، وهزيمة اليابان، كما في أعمال كينزابورو (نوبل 1994) سنجد صدى ذلك كله لدى ايشيغورو، حيث تحضر الحرب العالمية في نسيج روايته «فنان من العالم الطليق» التي صدرت عام 1986، وظهرت في ترجمتها العربية في طبعتين، عن دار أزمنة عام 2006 والمركز القومي للترجمة في مصر عام 2009، بترجمة هالة صلاح الدين.
تشير ثقافة «الساموراي» إلى المحاربين المعتزين بالتقاليد، والتراتبية، وتلك إحدى الاستعارات الأساسية في تكنيك ايشيغورو، فبطل الرواية (أوجي) يراقب حياته، مثلما يراقب يابان ما بعد الهزيمة، وقيم الواجب والأسرة، وتغيرات الأماكن وعادات المجتمع.
هنا يمنح ايشيغورو بطله دوراً مركزياً، صانعاً للأحداث، متأملاً لها، وراوياً مهيمناً عليها. مانحاً إياه حرية مطلقة في الحكي والتذكر والاستطراد والتخمين وإطلاق الأحكام.
وإذا كان ايشيغورو مقتصداً في لغته، فبطله أيضاً، يبدو كتوماً، ولا يريد أن يكشف كل شيء دفعة واحدة، أو لنقل إنه يعيد اكتشاف وعيه بذاته، محاولاً نفض أوهامه أو التصالح والتعايش معها.
تبدو الحرب أشبه بظلال بعيدة، على رغم فداحة تأثيرها، فهو لا يستدعيها على نحو مباشر، بل برهافة، عبر إشارات متقطعة، ويجعلها بمثابة ستارة خلفية لمسرح الأحداث، إشارة مرجعية مفسرة لما نراه من خواء.
مثلاً نقرأ أكثر من خمسين صفحة تصور لقاء عادياً بين أوجي وابنته المتزوجة وطفلها، وابنته الثانية التي لم تتزوج بعد، قبل أن نعرف أنه فقد نجله في الحرب.
ولاشك في أن تحديد التأريخ في استهلال النص (تشرين الأول / أكتوبر 1948) إشارة واضحة إلى ما بعد الحرب مباشرة.
«بُلي المنزل بنصيبه من دمار الحرب. كان أكيرا سوجيمورا قد بنى جناحاً شرقياً للمنزل يضم ثلاث حجرات واسعة يصلها بالجزء الرئيسي من المنزل ممر طويل يقطع جانباً واحداً من الحديقة».
مقطع مثالي، يكشف كيف تلاعب بالحرب ـ على رغم تأثيرها المروع بإشارة لا تزيد على كلمتين «دمار الحرب»، مفضلاً الاستمتاع بوصف وتصوير البيت.
بالطبع ستمر مقاطع مهمة، وعالية النبرة أحياناً، عما خلفته الهزيمة من أثر، مثل قوله:
«استغرق وصول رفات ابني من منشوريا أكثر من عام. فقد ظلوا يخبروننا أن الشيوعيين عقّدوا كل شيء هناك. وعند وصول رفاته أخيراً، برفقة رفات 23 شاباً آخرين سقطوا ضحايا في محاولة منهم لشن هذا الهجوم البائس عبر حقل الألغام، لم تكن هناك أية ضمانات أن الرفات هي حقيقة رفات كينجي ولا أحد غيره. وقد كتبت لي سيتسوكو أيامها: لكن لو اختلطت رفات أخي، لن تختلط سوى برفات رفاقه. ونحن لا يسعنا أن نتذمر من ذلك».
مقطع بالغ الرهافة والأسى، لكنه لا يُعنى بالحرب كشأن عام، بل كفقد شخصي. فأحد أهم تكنيكات ايشيغورو أنه لا يذهب إلى الأحداث الكبرى مباشرة، بل يعكسها لنا في مرآة أحداث إنسانية صغيرة.
تأخذ «الرحلة» أبعاداً مركبة في بناء السرد، فهي تعبر عن انتقال مزدوج جسدياً… عبر الأماكن، وروحياً عبر الذاكرة. فالبطل أوجي العجوز الذي يقضي وقتاً طيباً مع أسرته الصغيرة يسافر بنا، إلى أحداث وأماكن أخرى، بادئاً السرد من لحظة أفوله حيث تشارف حياته على الانتهاء، ليأخذنا في رحلة معكوسة عبر الزمن الذي ولى.
«قد يبدو احترامي لحجرات الاستقبال مبالغة مني بحق لكنك يجب أن تدرك أن المنزل الذي نشأت فيه، في قرية تسوروكا على مسافة نصف يوم بالقطار من هنا، حظر عليّ دخول حجرة الاستقبال حتى بلغت الثانية عشرة».
فالنص بكامله، رحلة عبر الذات وأماكنها، لامتلاك البصيرة، ومواجهة أوهام العمر، ورصد فجوات التاريخ وثقوب الذاكرة. وفي الوقت نفسه تاريخ أوجي الفرد العادي، بمثابة مرآة صغيرة ترينا مرآة كبيرة لليابان منذ مطلع القرن العشرين، إلى ما بعد الحرب.
أشار تقرير الأكاديمية إلى أب ثالث لإيشيغورو هو مارسيل بروست صاحب «البحث عن الزمن الضائع». وهو بالفعل أب شرعي لعالم قائم على ألعاب الذاكرة، والقبض على الزمن المنسرب.
فلا عجب أن نجد الراوي يتأرجح بين الضمير الأول والثاني، ضمير المخاطب، أو أن يتركنا معلقين في حكاية، ثم يهرب بنا إلى حكاية أخرى.
لذلك اتسمت الرواية بالفواصل الاستطرادية الطويلة نسبياً، لذة الحكي والتأمل، فالراوي الذي كان يجلس مع عائلته في البيت، أخذنا إلى حانة كاواكامي من ص 26 إلى ص 39، وأيضاً من ص60 إلى 71 أخذنا إلى منزل طفولته، قبل أن يعود مرة أخرى.
ونتجاوز الصفحة المئة قبل أن ينتقل بنا إلى «اليوم التالي» لتلك الجلسة العائلية حيث أخذ حفيده إلى السينما.
مع الأخذ في الاعتبار أن توظيفه تيار الوعي مقيد جداً، وأقرب إلى السطح، فهو لا يغوص في عمقه، بل يلجأ إليه لبناء الذاكرة وسد فجواتها، وتأجيل المعنى المراوغ. إلى درجة أن الصفحات تمضي بنا ولا نستطيع أن نحدد ما القضية المركزية التي تشغله: البيت؟ الحرب؟ تغير المجتمع؟ فقد ابنه؟ فشل خطوبة ابنته؟ عمله كفنان؟ المهم أنه يعرف كيف يتلاعب بنا، ذهاباً وإياباً، عبر الذاكرة. وربما تكتسب الرواية حداثتها من تلك الاستطرادات، وافتقارها ظاهرياً إلى بناء محكم يستعبد الكاتب والقارئ من أولها إلى آخرها.

البيت واليابان
بيت السيد سوجيمورا مركزي في النص، وصفاً وسرداً، نقطة التقاء، فهو شاهد على الحرب وتحولات العصر. كذلك بقية الأماكن مثل حانة كاواكامي.
يوظف ايشيغورا أي مكان كمرآة لتحولات اليابان، فعندما نرى تاريخ البيت، فإننا نرى تاريخ اليابان متسللاً عبر نوافذه ولوحاته وأحداثه.
وتكشف عنايته وولعه بالأماكن عن براعة الوصف والتصوير على الطريقة اليابانية، وتشييد عالم طقوسي.
فإيشيغورو هنا يملك تلك البراعة في الاستقصاء وتوظيف تلك الذاكرة المكانية، لاستعادة القصص والوجوه والمآلات، مستفيداً من ألاعيب التذكر وتيار الوعي في رسم بطله العادي (عكس الساموراي) وهو يواجه حياته وحنينه إلى أماكن اندثرت… لكنه أيضاً يملك الأمل في الغد: «بيد أني حين أبصر كيف شيدت المدينة من جديد وكيف تعافت الدنيا بسرعة فائقة خلال هذه الأعوام، يشمل قلبي سرور أصيل».

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى