عدنان الفضلي يمارس تجريباً يتناغم مع الروح الحية للشعر العراقي

علي سعدونعلي سعدون

وفق نظرية التناص المعروفة، لا يوجد نص جديد، وبالتالي لا وجود لمؤلفين من العدم، فثمة شبكة معقدة من النصوص، تؤسس لما يليها، وتكمن ماهية الإبداع في الأداء الشخصي للمادة الأدبية، بوصفها تنويعا على أصل “ما”، وهو قدرتها على التعارض مع الخط الأفقي الذي تتراكم عنده نصوص كثيرة، يُطلق عليها منطقة “السائد من النصوص”.
من هنا تتأتى خطورة قراءة قصيدة النثر اليوم، بعد ان صارت الظاهرة المثيرة للجدل، واقعا وتاريخا طويلا مجسدا بتمثيلات الظواهر الشعرية المختلفة، على امتداد أربعة عقود أو أكثر في الثقافة العراقية، وهي ثقافة “شعرية” في غالبية إنتاجها.
ولأنها كذلك، ينبغي لنا مراجعة وإعادة إنتاج ما يصدر منها على الدوام، وفق نظرية التلقي “علاقة المنتج من النصوص وتأثيره في الواقع”، ذلك أن القصور النقدي، في متابعة الجهد الشعري الواسع والفضفاض، أدى و”ما يزال” إلى ضياع حقيقي في ثقافتنا، خاصة في ما يخص تصويب المسار للتجارب التي تقدم مشروعا مهما، يلامس مشكلات الإنسان ويضعها في مقدمة تصوراته واشتغالاته، لا المشاريع الوهمية التي تعمل على نسخ الظواهر، بسماتها الواضحة والمستقرة، وتقديمها بطريقة، تجعلنا ننفر من المادة الأدبية، ونشعر بلا جدوى القراءة.
مناسبة التدوين هنا، قراءة مجموعة الشاعر عدنان الفضلي “غواية الساعات” انطلاقا من مراجعة سريعة، للظاهرة الثقافية المهمة في العراق (قصيدة النثر)، بعد مرور زمن ليس باليسير تجاوزه، وقد قدم نماذج شعرية هائلة، وتشظى عبر سنواته إلى أجيال وضعت من بصمات الاختلاف ما يستحق الوقوف عنده بالدراسة والبحث، أعني أنها وكأنموذج أدبي على قدر من الأهمية، تستحق المتابعة بنماذجها الجديدة، ربما للوقوف على مدى إيمانهم اليوم، بالتغاير والتجديد الذي انبثقت عنه تلك القصيدة، فضلا عن أهم مشكلاتها في التجارب الجديدة، ومنها الفضلي بطبيعة الحال .
فباهتمام شعري جاد، يتوخى اشتغال عدنان الفضلي في مجموعته “غواية الساعات” الدخول إلى منطقة التغاير والمقاطعة للسائد منها، منذ العتبة الأولى عنوان المجموعة، التي تشير ابتداء إلى زمن يتجدد متبوعا بغواياته، وكان من الممكن جدا أن تتحول العتبة عن مقصدياتها لو كانت تخص ساعة غواية “ما” وليست ساعات متعددة، نحن إذن بإزاء مجموعة غوايات مستمرة، لا يديمها، سوى زمن يغذي الغوايات وينعشها، وهو زمن غريب للغاية، إذا ما عرفنا أن ساعات عدنان الفضلي “محلية بامتياز” بشخوصها وأمكنتها، الأمر الذي سيجعلنا نتساءل كثيرا: عن أي إغواء يتحدث؟ وهو “هنا” قرين دلالة لا تشذ عن اللذة، بوصفها المعنى الملتصق بمفردة إغواء، الذي ستنبثق عنه نصوص من قبيل: دم النخيل والأساطير، بوح الجمر والخمر، سبعة أحزان عجاف، ابنة الماء والشرر، عقوق المدينة العتيقة، إليهم قبل تعطل أوردتي، أنثى تخثر دمي على شفاهها، ونصوص عديدة أخرى.
العتبة النصية هذه، أعدّها، أولى التغايرات – إذا جاز التعبير – إذ لا يتوخى الشاعر هنا مطابقة الواقع فحسب، بقدر ما يريد أن يطيح بحقيقة ثقيلة ومدمرة تتمثل بالزمن الذي يعيش، فبدلا من احتفائه بخراب الساعات والنواح الذي يجاوره – وهو ما يحدث عادة – في إعادة إنتاج الحرب والموت والبشاعة في النصوص، نراه وبوعي حاد يسخر منها، الى الحد الذي يطبع تلك السخرية بما لا يطابقها، وهو يدرك جيدا، أن لا غوايات على الاطلاق في ساعاتنا.
من جانب آخر، تضج نصوص المجموعة، بتداعيات يومية كثيرة، وكأن الشاعر يبني مقصديات نصوصه على أساس ولوجه في صميم الحياة، حيث الضياع والتقهقر عاملان مهمان يرسمان مشهدا يتكرر كثيرا في المجموعة، وهما أيضا عاملان يتكرران في حياتنا، ففي نصه “مسطولا” نقرأ:
في سكرته الأخيرة/ خال نفسه يحاذي قرية فاضلة/ ترسل به إلى الفراديس مسطولا/ يصرخ على مقربة من الأربعين/ الآن فقط نبتت في رأسي شعرة سوداء/ فلا تـُسمعوني الحماسةَ/ قبل أن أغيـّر مقامات جنوني وأحرك أرجوحة الصباحات/ علـّها.. تشغلني عن الافتراضات/ والبضاعة التي رُدّت على وطني. (المجموعة ص 40).
وهي ترجمات واقعية، لمشهد يـُفترض أنه فنتازي، وضاج باللاوعي، يجترحه الشاعر هنا، باعتباره تفاصيل حية وملموسة، وهو ما يوحي به امتداد نصه الطويل نسبيا “مسطولا” من إشارات وسرد يتناغم كثيرا مع فكرة الخدر التي ينعم بها في سكرته الأخيرة، حيث يمر على فنارات الرب، منتشيا ومملوءا بالصلبان الكهنوتية التي تحتضن روحه.
هكذا يفسر لنا الشاعر سكرته الأخيرة التي تنطلق من الفضيلة وتنتهي بها، وهو يمر من خلال وجع نعيش تفاصيله على الدوام، يعبث بكينونتنا ووجودنا، الأمر الذي يؤكد محلية النصوص بشكل جلي وعلاقتها بالحياة العراقية على وجه الخصوص.
لقد حفلت المجموعة بنصوص كثيرة، تتوهج فيها العبارة الشعرية، الى الحد الذي يجعلنا نصف بعض مقطعات النصوص، بأنها نصوص كاملة، جديرة بالقراءة وممتعة إلى حد كبير، وهي كثيرة بتعدد مضامينها وتنوعها..، مع الإغراق في النثرية في بعض منها، كما في نص هواجس “تعتليني”:
ألقي إليك بمسافة/ فاختصري الزمن الممغنط/ واحفري في خطواتك وشما على الطريق/ وفي جادة ممشاك/ اجمعي شتات الندى/ واتركيه في سلة القرابين/ فوصولي الي .. سيمر في محراب سومري” ( المجموعة ص 99).
هذا الإغراق في النثرية والاسترسال في السرد غير المنتج شعريا.. يشيران إلى أهم مشكلات قصيدة النثر العراقية، النثر الذي لا يهتم كثيرا بتأثيث العبارة، بانزياح تتطلبه الشعرية وتشترطه كحد فاصل بين الشعر وسواه.
في الحداثة الثانية من شعرنا العراقي، لا ينجم عن فتح البيت الشعري في العمود التقليدي أو نصوص الحداثة الأولى، فوضى شعرية، إنما الذي ينجم عنها بطبيعة الحال وهو اشتراط “شعري” بالدرجة الأولى، مجموعة لمعانات تعوض وتفوق تأثيرات الوزن والقافية، نقول لمعانات، ونعني هنا معمار العبارة ومقصدياتها، في التكثيف والوخز، وقدرتها على صنع التغاير مع كم هائل من تصورات شعرية تراكمت على مدى عصور طويلة، وكونت بمجملها ما نسميه اليوم تراثنا الشعري، أحد أهم سمات ثقافتنا العربية.
بعد هذا كله، بوسعنا أن نقول بجدية المشروع الشعري لعدنان الفضلي، الذي يسعى مع عدد من مجايليه، لتأكيد أهمية هذا النص، من خلال إلتقاطات ثاقبة لموضوعات غاية في الأهمية، وأداء يتناغم كثيرا مع الروح الحية التي يتمتع بها الشعر العراقي.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى