الترجمة مسؤولية أخلاقية وثقافية طوعية

محمد  الحمامصي

يحمل أستاذ الأدب المسرحي الإنكليزي بجامعة بابل صالح مهدي حميد في سيرته النقدية والإبداعية العشرات من الدراسات المقارنة المختصة بالمسرح الغربي والعربي، إضافة إلى ترجمة العشرات من الأعمال المسرحية والنقدية المتعلقة بالمسرح، بالإضافة إلى ثلاثين عاما من التدريس بين جامعات الموصل وبابل والقادسية في العراق، وجامعات أوهايو وساوثمبتون. وقد صدر له بالقاهرة أخيرا كتابه “المسرح التأرختوثيقي”.

 

المسرح والقارئ

بداية يقول صالح مهدي “خلال تجربتي الأكاديمية التي تمتد لأكثر من ثلاثة عقود، خلَصتُ إلى أن القارئ العربي الذي لا يحسن اللغات الأجنبية أو يجيدها لا يمتلك الفرصة للاطلاع على المنجز الثقافي والإبداعي غير العربي، وبالتالي تولدت لدي مسؤولية أخلاقية أنه ينبغي على مَنْ يحسن الترجمة أن يساعد القارئ العربي على امتلاك بعض من هذا الزاد الذي هو بحاجة إليه. فالإعلام والصحافة ما فتئا يهتمان بالقضايا الساخنة (وحتى اليومية منها) وقد تراجعت المساحات المخصصة للموضوعات الثقافية والأدبية إلى حد كبير على صفحات تلك الصحف والمجلات”.

من جهة أخرى يلفت ضيفنا إلى حقيقة تراجع المسرح العربي عموما، والمسرح السياسي خصوصا، بسبب عوامل متعددة؛ إذ يشكل التحدي الذي يفرضه الواقع العربي، ثقافيا وسياسيا، أحد أهم أسبابه. وبسبب هذا التراجع، غابت النصوص المسرحية العربية، ليس بسبب عدم تواجدها نصوصا مكتوبة، ولكن لعزوف كل من الفرق المسرحية وجمهور النظارة على الاهتمام بها. فلم يعد المشاهد العربي يشاهد غير أعمال هزيلة في أغلب الأحيان تعتمد على “شهرة البطل/ البطلة” الهدف منها جني بعض الأرباح لا غير.

وللأسف، ابتعد المسرح عن الخوض في المواضيع “الساخنة” التي تهم حياة المواطن العربي، والتي يشكل “الوضع السياسي” عنصرا رئيسا منها، إما خوفا من ردود فعل السلطات العربية الحاكمة التي تبدو مستعدة على الدوام لـ”توجيه” التهم والعمل على “إسكات” أصوات الرفض التي تنطلق ضد فساد تلك السلطات وأدائها الفاشل في مسؤولياتها الوطنية؛ أو للشعور بالإحباط بأن الأوضاع القائمة هي خارج حدود القدرة على الإصلاح.

يتابع مهدي “وجدت من هذا الوضع المتردي أن أهيّئ للقارئ العربي فرصا تجاوز فيها الكاتب المسرحي مثل هذا الواقع واستطاع أن يؤشر مواطن خلل متعددة كل في بلده، لعله يستطيع أن يجد فرصة يحظى من خلالها بأساليب تعينه على التفكير بطرق يحاكي بها تلك الأمثلة. ولعل تخصصي الدقيق بالمسرح الانكليزي قد شجعني، هو الآخر، على إفادة القارئ العربي من تجربتي الشخصية من خلال اطلاعه واطلاع حتى المهتمين بالمسرح العربي على نماذج ومدارس معاصرة في المسرح، لم تسعفه الفرص من الاطلاع عليها”.

ويرى مهدي أن المكتبة العربية تخلو من كتب باللغة العربية حول الكثير من أنواع المسرح. مثل المسرح التأرختوثيقي.

ويؤكد صالح مهدي أن أهم التحديات التي تواجه الترجمة هي الإلمام بثقافة اللغة المنقول منها وكيفية تعامل المترجم مع النص بصفته تمثيلا ثقافيا لأمة بأجمعها. ويوضح أنه قد يلجأ بعض العاملين في حقل الترجمة إلى التعامل مع النص الأجنبي (الآخر) بواقع ومعطيات ثقافة لغة المترجم، مما ينجم عنه نشاز واضح في المحتوى، وبالتالي يخفق، كما يقول، في إيصال الصورة الصحيحة إلى المتلقي.

يضيف “زيادة على ذلك، يشكل اختيار ماذا ينبغي أن يترجم إشكالية أيضا: ليس كل ما تفرزه لغة (الآخر) صالحا للترجمة، إذ ينبغي أن يمتلك المترجم رؤية واضحة عن الهدف من وراء نقله نصا ما من لغة إلى أخرى. لعل قراءة نتاج المترجمين المشهود لهم بالريادة وحسن العمل في العالم العربي، وهم كثيرون حقا، إحدى أهم المسؤوليات التي تقع على عاتق المترجم. فالقراءة والتواصل مع أعمال المترجمين الآخرين إمداد دائم بعناصر الإبداع”.

ويشير إلى أن أول شرط لإخضاع عمل أدبي للترجمة هو الفائدة المرجوة من القيام بهذا العمل، زيادة على أن أهمية النص الأصلي بصفته عملا أدبيا مفيدا: ينبغي أن يكون العمل الأدبي الذي ينوي المترجم التصدي له ذا عناصر إبداعية وثيمية مؤثرة ومفيدة للقارئ العربي.

 

الترجمة مغامرة

ويرى صالح مهدي أن على المترجم أن ينبري للقيام بترجمة الأعمال الأدبية المهمة طوعا لأن مثل هذا العمل يشكل مسؤولية أخلاقية وثقافية مهمة تقع على عاتقه. ويجب أن يتحول المترجم (بفضل معرفته بلغة الآخر) إلى عين للقارئ؛ فالمترجم يمتلك الرؤى الواضحة عمّا ينبغي أن يترجم من تلك الأعمال، فهو بهذا يسعى إلى تحسين الذائقة الأدبية العربية وتنوع مصادر الإبداع التي تقدم الى القارئ العربي.

وحول استحواذ الروايات والكتب الفكرية والنقدية المترجمة على جل اهتمام القارئ العربي العادي والمتخصص، ومن جانب آخر احتفاء دور النشر الخاصة بنشرها. وذلك كله في مقابل تراجع في الاهتمام بالمؤلفات العربية على اختلافها. يقول صالح مهدي “إن هذه التفاتة ذكية فالنص الفكري والثقافي والعلمي غير العربي يحظى بمصداقية عالية تفوق ما يلقاه النص العربي المؤلَّف.

لعل بين أسباب هذا التوجه تراكم الأفكار عن ‘أفضلية الآخر‘ غير العربي في شتى الميادين وهي فكرة درج عليها المواطن العربي منذ فترات بعيدة شكلت لديه ما يسمى حاليا بعقدة الخواجه. إضافة إلى ذلك، فشل المنجز العربي حقا في أن يفرض حضوره المميز على الساحات الثقافية والأدبية لانشغال المثقف والمفكر العربي بقضايا جانبية ذات أطر محلية وأحيانا ضمن المحيط العربي نفسه، بقضايا ذات أطر قطرية أو فئوية مما جعل المتلقي يشكك في مصداقية هذا الخطاب، قياسا بالمنجز غير العربي الذي يخاطب الجانب الإنساني”.

يؤكد صالح مهدي أن النتاج الفكري والمنجز الثقافي والأدبي منظومة متكاملة؛ وأن تراجع حقل من حقولها لأيّما سبب، يفرض ذلك التراجع تأثيرا سلبيا على المنظومة بأكملها. التراجع الذي حلّ بالأطر الثقافية بسبب تراجع البنى الفكرية والثقافية العربية في بعض بلدان العالم العربي إن لم يكن جميعها، وهذا لا يشجع المترجم على المغامرة بتقديم نصوص وأعمال لا تتسق مع حالة التراجع هذه لأنه يعرف أن لا أحد من القراء سيهتم بها.

وبالنهاية يؤكد صالح مهدي أن الترجمة مازالت لا تحتل الموقع الجدير بها بين الأعمال الإبداعية المتنوعة؛ وهي بحاجة، على حد زعمه، إلى عمل مشترك من جميع الجهات ذات العلاقة. فعلى سبيل المثال، مازال المترجم العربي لا يمتلك جمعية للمترجمين العرب تأخذ على عاتقها لمّ شمل العاملين في حقل الترجمة في الوطن العربي؛ و تحديد مسارات ثقافية ومهنية، وعقد مؤتمرات وندوات دورية تسعى إلى نشر الوعي بأهمية الترجمة وتتبنى مشاريع “ترجمية” كبيرة تهم المنجز الثقافي والفكري “للآخر” على حد سواء من المنجز الفكري والثقافي العربي.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى