«مكتبة لورانزو» لمايكل آنجلو: تحفة معمارية على الرمق الأخير

ابراهيم العريس

كانت سنوات عديدة قد انقضت منذ بارح النحات والرسام والمصمم النهضوي مايكل آنجلو فلورنسا، في شكل نهائي كما سوف يتبدّى لاحقاً، إذ إنه لن يعود اليها حياً أبداً، حين التقاه صديقه وكاتب سيرته جورجيو فازاري مقترحاً عليه أن يعود الى المدينة التي شهدت سنوات مجده، ولو لفترة محدودة من الزمن ينجز خلالها، على الأقل، مشروعين كان قد بدأهما لكنه تركهما غير مكتملين. والمشروعان كانا مرتبطين بآل مديتشي الذين كانوا يحكمون فلورنسا ومن الجليّ أن ترك مايكل آنجلو المدينة كان مرتبطاً أصلاً بسقوط حكمهم فيها وبالتحديد سقوط لورانزو دي مديتشي الذي كان راعيه فنياً والعاهل الذي يطلب منه تشييد وإنجاز أعظم أعماله في المدينة. لكن الفنان رفض كل المغريات التي نقلها اليه صديقه الذي نعرف أنه كان فناناً بدوره، لكن التاريخ سوف يخلده بوصفه مؤلف أفضل موسوعة فنية ظهرت في ذلك الحين. موسوعة أفرد العدد الأكبر يومذاك من صفحات طبعتها الأولى لفن مايكل آنجلو وحياته. وها هو اليوم يأتيه حاملاً اليه طلباً رسمياً بالعودة واستكمال مشروعين على الأقل كان قد تركهما من دون أن يكتملا: كاتدرائية آل مديتشي التي لن يكملها أبداً. بخاصة مكتبة لورانزو التي وعد صاحبه بأنه سوف يجد عما قريب طريقة لاستكمالها. أو بالأحرى لإنجار سلالم مداخلها التي تفضي الى قاعة المكتبة ذاتها. القاعة التي كان أنجزها بالفعل. ولقد حقق مايكل آنجلو يومذاك ما وعد به، إذ ما إن مرت فترة حتى أرسل الى فلورنسا صندوقاً مخفوراً في داخله الرسوم والتصاميم التي يُفترض أن ثمة في المدينة من سوف يهتم بتنفيذها عملياً. يومذاك، كانت التصاميم والقياسات من الدقة الى درجة لم يحتج معها المهندس ومعلم العمار آماناتي الى جهود كبيرة قبل أن يطلع المدخل بين يديه تحفة معمارية جديدة من نوعها ولا تزال تعتبر الى اليوم تحفة تنسب طبعاً اليه كمنفذ، لكنها تنسب أيضاً وبالطبع الى مايكل آنجلو كمصمم عرف كيف يحول فكرة مجنونة مرت في خياله، أو في حلم من أحلامه كما قال لفازاري، الى واقع ملموس ومبنى فتن – ولا يزال يفتن – كل من يزوره.
> والحقيقة أنه إذا كان مايكل آنجلو قد تمكن من هذه «الأعجوبة المعمارية» وفق توصيف فازاري، فإن الفضل في ذلك يعود الى طول فترة الانقطاع بين إنجاز المكتبة ذاتها، وإنجاز مدخلها. ويروي لنا فازاري أن مايكل آنجلو، ومنذ مبارحته فلورنسا ولا سيما منذ لقائه اللاحق معه، لم يكفّ لحظة عن التفكير في ذلك المدخل حتى أنه قال له إذ أعلن موافقته على استئناف العمل أنه يتذكر سلما يخيّل إليه انه شاهده في حلم من أحلامه، «لكنه لم يكن تماماً على الصورة التي كنت أتخيلها للمشروع، فالمسألة تبدو لي غامضة». غير أن ذلك لم يمنعه من أن يرسم على الورق ما اعتبره حلمه ليتحقق بعد فترة على شكل ثلاثة سلالم مترابطة ذات درجات غريبة يخيل الى المرء وهو يرتقيها أنه يطير عكس تيّار ما. بل، وبأكثر مما يحس أنه يرتقي سلالم هندسها معماري، يرتقي منحوتة ضخمة سرعان ما يضحي هو جزءاً منها. «إنه، كما يقول المعلقون حتى اليوم، عمل ناتج من خيال نحات بأكثر مما هو ناتج من علم مهندس معماري». أما مايكل آنجلو فإنه سوف يقول لاحقاً إن ضيق المكان واضطراره لحصر السلالم في ذلك المدخل الضيق الموجود سلفاً هما اللذان حتما عليه ذلك التصميم، وذلك تحديداً لأنه كان يعرف أيضاً أن الوجود المسبق لجدران ذلك الفناء الذي أقيمت السلالم داخله، أجبره على ابتكار صحيح انه يُشعر الداخل انه يبذل جهداً حتى يجتاز السلالم المثلثة، لكنه يشعره في نهاية الأمر، وإذ يصل الى الباب المزدوج الذي يفضي من المدخل وسلالمه الى المكتبة ذاتها، بقدر كبير من الراحة والانتعاش. وذلك بالتحديد لأن المكتبة في حد ذاتها، إن لم تكن في الأصل تحفة معمارية استثنائية بالنظر الى أن المبنى موجود مسبقاً، فإن اشتغال مايكل آنجلو مباشرة على إعادة توزيعها وتحويلها من رواق طويل عاري الجدران، الى قاعة مطالعة وعمل للباحثين، جعل منها شيئاً آخر تماماً: مبنى – صرحاً يعتبر من معالم فلورنسا حتى أيامنا هذه.
> ويعود أصل الحكاية الى نحو العام 1523 حين طلب جوليوس دي مديتشي وقد أضحى البابا الجديد تحت اسم كليمان السابع، من مايكل آنجلو، أن يعيد تقسيم وترتيب الطابق الواقع فوق دير يخص آل مديتشي، ليحوله الى مكتبة تودع فيها الأوراق والكتب والوثائق التي تخص تلك العائلة الحاكمة دنيا وديناً، لتكون في تصرف الدارسين والباحثين يشتغلون عليها في ظروف مريحة. وبالفعل بدأ المعماري الكبير العمل على ذلك المبنى الضخم الذي يعود الى القرون الوسطى والذي لجدرانه سماكة وتجويفات مدهشة تضبط إيقاعه الشكلي من الداخل وكانت هي التي دفعت الفنان الى إعادة استخدامها مع تحويرات أساسية فيها تستفيد من الدعائم التي تمتد على ارتفاع الجدران وتقسم السقف ذاته ضمن إيقاع قرر مايكل آنجلو أن يحوله من إيقاع قوة الى إيقاع جمال. وعلى هذا النحو، كان من المنطقي له ان يستفيد من تعدد النوافذ وإيقاعها اللطيف لجعل القسم السفلي منها حيث الجدران تحتها، المكان الطبيعي الذي ترصف فيه الطاولات المعدة لجلوس الباحثين واشتغالهم. وبهذا تحولت كل نافذة بما يحيطها من إفريزات ومستطيلات الى ما يشبه المكتب المستقل. وبدت القاعة في نهاية الأمر رواقاً في غاية الأناقة تمكنه النوافذ المتعددة من أن يسمح للنور بأن يغمر المكان بقوة. كما حولت الجدران والسقف من مسطحات توحي بالقوة والجبروت، في تناسقها العملي الأول، الى نوع من جدران مستقلة عن بعضها بعضاً، مزينة بألوان وديكورات بالغة الدفء توحي بالأمان والألفة. لقد تبدى الأمر في نهاية المطاف وكأن مايكل آنجلو قد خلق من تلك القاعة عملاً تشكيلياً ساحراً باشتغاله على التوزعات المستطيلة والكرانيش التزيينية. غير ان الإطار كله ظل إطاراً رصيناً يوحي تماماً بالغرض المتوخى من ذلك العمل، ويحضّ على محاكاة المشروع في أماكن أخرى عبر تحويل جمودية القاعات المبنية قوية وعملية، الى قاعات تعبق بالجمال. ولكن بالجمال الرصين هنا. أما للخروج بعض الشيء عن تلك الرصانة التي كان في مقدور كثر أن يعتبروها مملة في شكل أو في آخر، فكان في مقدور مايكل آنجلو ان يعتمد على الفناء الخارجي الذي يضم أصلاً مدخل الإستقبال… لكن ضيق تلك القاعة وانخفاضها عن مستوى المكتبة ذاتها ظلا مشكلة تواجه مايكل آنجلو، حتى بعد تخليه عن المشروع ورحيله الى روما كما أشرنا. وكان الحلم هناك في انتظار فناننا، ليمكنه من أن يزاوج بين فنية السلالم ورصانة المكتبة خالقاً بذلك التزاوج عملاً فنياً متكاملاً.
> صحيح أن مايكل آنجلو لن يكون من حظه أبداً، ولأسباب تظل غامضة، أن يعود الى فلورنسا لمشاهدة عمله مكتملاً على رغم أن الناس من حوله كانوا لا يكفّون عن الحديث عنه والإشادة به، لكنه كان يعلم علم اليقين، وحتى ساعات حياته الأخيرة، أنه هذه المرة أيضاً عرف كيف يحقق عملاً فنياً سوف يعيش طويلاً من بعده. ويروي فازاري انه ذات يوم لاحق وإذ سأله عما إذا لم يكن ثمة شيء من فضول يستبد به كي يزور ذلك المبنى الذي يعتبره كثر من أجمل ما حقق، أجابه: لكني لم أبنه لكي أشاهده. بنيته كي يشاهده الناس وها هم يفعلون.
> مهما يكن من أمر، حين أنجز مايكل آنجلو بوناروتي هذا المشروع كان في الثمانين من عمره، وكان مجده كله قد أضحى وراءه، ومع هذا كان قد بقي عليه أن ينجز العديد من الأعمال الكبرى ومنها كاتدرائيات وقبور/ صروح ومنحوتات تبقى حتى أيامنا شاهدة على مرور ذلك العبقري النهضوي في فضاء الرسم والنحت والهندسة والتحصينات، مروراً استثنائياً هو المولود العام 1475 في كابريزي والذي عمر حتى العام 1664 حين رحل عن عالمنا في بيته الفخم في روما، لكن جثمانه سوف يقوم برحلة أخيرة، تحديداً الى فلورنسا التي شهدت بعض أعظم لحظات مجده. وصولاً الى جنازته التي أقيمت في كاتدرائية سان لورنزو التي تعلوها تلك المكتبة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى