فاز بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم ..«الكتاب الأخضر» للأمريكي بيتر فاريللي: عما تشكّك أمريكا في إمكان حصوله

حسن داوود

بدا لقاء الرجلين، الموسيقي وسائقه، مثار تساؤل منذ البداية. وجودهما معا قلب الأعراف المعمول بها في الولايات المتحدة رأسا على عقب. الرجل الأبيض هو السائق، أو المرافق، بينما الأسود هو المبدع الأرستقراطي الذي يعيد تهذيب مرافقه على حسن التصرف الاجتماعي فيأمره، مثلا، بأن يُرجع السيارة إلى الوراء ليلتقط علبة «الكنتاكي فريد شيكن» التي كان ألقى بها من النافذة. حسب الإعلان عن الفيلم قرأنا أنه مبنيّ على الوقائع الفعلية، لما جرى في الرحلة التي قام بها الرجلان داخل الولايات المتحدة، والتي استغرقت شهرين كاملين. منذ البداية جرى التعريف بكل منهما، توني ديب فالالانغا أولا، النادل في المقهى، لكن الذي يُستعان به لمعاقبة الزبائن المشاغبين، بالطرد أو بالضرب. والآخر الموسيقي الذي يبدو، وهو في بيته، كما لو أنه ملك على إحدى الممالك الإفريقية. وهذا الأخير ترك توني ليب، الذي مَثُل لإجراء المقابلة، ينتظر متعجبا من الأثاث الغريب للمنزل، ومن مجيء داعيه مرتديا ثيابا ملكية هي أيضا، ومن جلوسه على ما يشبه العرش الذي يمكّنه ارتفاعه من النظر إلى محاوره من علٍ.

في بداية رحلتهما لم يتوقفا عن المناكفة. توني ليب رفض أن يرتدي اليونيفورم الخاص بالسائقين، بل إنه تمنّع عن حمل حقائب موظِّفه وركنها في صندوق السيارة. وعلى الطريق جعل يتصرّف غير آخذ في الاعتبار أن عليه أن يطيع، أو أن يتخذ هيئة التابع. كان يختار الأغنيات التي تعجبه ويعلّي صوت الراديو غير آبه بذلك الجالس في المقعد الخلفي، ثم، بموازاة التهذيب المبالغ للموسيقي، بدأ مرافقه وجبته الأولى، وهو الأكول، بأن اشترى علبة ضخمة من قطع الدجاج المقلي تكفي عائلة كاملة، وجعل يأكلها مقرمشا عظامها وملقيا إياها بعد ذلك من نافذة السيارة.

تلك المشاهد الأولى عن تعارفهما جُعلت، لتكريس ذلك القلب للأدوار والتمايزات بين الرجلين، كأن ليبدو الأبيض هو الأسود، وحسب ما كتب أحد النقاد في صحيفة بريطانية: «بالتدريج بدأ توني ليب يشعر بأنه أكثر سوادا من الرجل الآخر».
لكن توني بدأ يحقٌّق بعض النجاح في إنزال الموسيقي عن رفعته وأرستقراطيته، إذ أقنعه بأن يتذوق قطعة من الدجاج، ممسكا إياها بيده، رغم انها ممتلئة بالزيت المقلي. هكذا بالتدريج راح أحدهما يبدي قبولا بالآخر، ومن ذلك قبول الموسيقي بأن يحلّ في ما يشبه المرتبة الواحدة مع مرافقه، وربما يرجع بعض ذلك إلى تعيين التفاصيل التي تعدّد تفاصيل من المواقع المقلوبة بين الرجلين، تلك المشار إليها أعلاه.
في إحدى المحطات التي بلغاها، وكان الموسيقي قد تعرّض لتحرّش ثلاثة من الرجال البيض في المقهى، أسرع توني ليب لنجدته، وحين تمكن من إبعاد المتحرشين قال للموسيقي، بما يشبه اللهجة الآمرة: لن تخرج بعد الآن إلا برفقتي. وفي فاصل آخر من الفيلم، حين جرى اعتقال الموسيقي بعد أن ضُبط بممارسة علاقة مثلية مع رجل أبيض، تصرّف ليب بقدر من الحنكة كان حصلها من عيشه في شوارع الفقر الأمريكي وهو، رغم ذلك، تعامل مع مثلية موظِّفه بكثير من التفهم.
لم تكن تلك غلبة حققها أحدهما على الآخر، بل كانت صداقة متكافئة جرت بين رجلين، لم تكن لتعينهما أحوال الستينيات على عقدها. عنوان الفيلم «الكتاب الأخضر» The Negro Motorist Green Book يشير إلى ذلك أولا، فهو مقتبس عن عنوان كتاب صدر في أواسط القرن الماضي
لـ Victor Hugo Green ليكون دليلا للسود يرشدهم إلى الفنادق والمطاعم التي يسمح لهم بدخولها، وكذلك إلى المحطات التي يمكنهم منها تزويد سياراتهم بالوقود. وقد اصطحب توني ليب نسخة من الكتاب لرحلته، لكنه لم يكن ليصدّق أن الفندق الذي اجتمع فيه أعيان المدينة ليستمعوا إلى عزف دون شيرلي، العازف الأول في أمريكا، لم يُسمح له بتناول عشائه هناك. «هذا ليس بيدنا ولا نستطيع شيئا حياله»، قال مدير الفندق للمرافق   توني ليب، «إنه النظام».

بسلاسة وبانتقال سهل ومرح في الكثير من المشاهد، تمكن الفيلم من مقاربة قضية ما زال النزاع والمجابهة سمتها حتى يومنا هذا. وبالسهولة نفسها تناول ذلك التفارق بين رجلين كان على كل منهما أن يكون في محلّ الآخر. وكذلك في ما يعنيه قول الموسيقي الأسود إنه «مستبعد من البيض لأنه كذلك، ومستبعد من قومه السود، لكونه مقبولا من البيض، ومستبعد من الجميع لكونه مثليا».
انتهى الرجلان إلى أن يكونا صديقين، وهما ظلا كذلك حتى موتهما، حسب ما تروي حكايتهما، التي انتشرت تفاصيلها بالترافق مع ظهور الفيلم الذي اشترك في كتابته مخرجه بيتر فاريللي وبراين هايِس وابن توني ديب الذي اعتمد على مقابلات كان أجراها مع الرجلين، ومن الرسائل التي كان يبعثها والده إلى والدته. لكن كثيرين اعترضوا على واقعية تلك الصداقة وصحة ما نقله الفيلم عنها. ربما بالغ الفيلم في تبنيه لإمكان حصولها، أو ربما لم يحتمل المعترضون ذلك التسامح بين الرجلين، أو لم يصدّقوا ما حمله من تفاصيلها.
*فيلم «الكتاب الأخضر» الذي فاز بجائزة الأوسكار الأخير لأفضل فيلم، ونال أحد بطليه ماهرشالا علي جائزة عن أدائه فيه، أخرجه بيتر فاريللي وقام ببطولته، إضافة إلى علي، فيغو مورتنسن.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى