«سولاريس» للروسي آندريه تاركوفسكي: عندما تكون السينما مسرحا للفلسفة

أوس حسن

«منذ باكورة أعماله «طفولة إيفان» 1962 اعتمد آندريه تاركوفسكي لغة مغايرة ومتفردة في بناء المشهد السينمائي، إذ كان يؤكد دائما على إن الإيقاع هو العنصر الأساسي المكون للسينما.
فالعمل السينمائي لدى تاركوفسكي يمكن أن يكون حياة مختزلة ومكثفة في سيمفونية، أو لوحة تجريدية تخترق برموزها ودلالاتها الأعماق السحيقة، وهو القائل في أحد حواراته «تكمن أهمية الفن في أنه يحمل شوقا إلى الكمال». يعتبر المخرج والكاتب الروسي آندريه تاركوفسكي (1932- 1986) أحد أهم وأعظم مخرجي الأفلام في القرن العشرين، حسب رأي كبار المخرجين والنقاد المنظرين للفن السينمائي، فهو شاعر السينما والصورة بامتياز، وتتسم أفلامه برمزية عالية وكثافة في المعنى، إضافة لاعتماده على اللقطة الطويلة في أفلامه، والمشاهد الصامتة الباعثة على التأمل والتفكير، تتميز أفلامه أيضا بعدم اعتمادها على الحبكة الدرامية التقليدية، وتفردها بعنصري الإيقاع والزمن، وما يتركه من أثر على الأشياء والشخصيات، إضافة لوجود فكرة عليا نابعة من تمازج مذاهب فلسفية، تؤكد على إشكالية الهم الإنساني العميق وصراعه في هذا الوجود المتناقض والمرعب.
«سولاريس » 1972 فيلم مقتبس من رواية للكاتب البولندي ستناسيلاف ليم.
تدور أحداث الفيلم حول عالم النفس كريس كيلفن، الذي يكلف بمهمة إرساله إلى محطة فضائية تدور حول كوكب تم اكتشافه حديثا، يدعى سولاريس، يظهر الكوكب وكأن له سطحا سائلا، ويتخذ أشكالا وهيئات بشرية مختلفة، يرسل كيلفن للتحقيق في أسباب وفاة الطبيب «جيربيان»، الذي مات منتحرا وتاركا رسالة يشرح فيها الأحداث والظواهر الغريبة على سطح هذا الكوكب.

يتفاجأ كيلفن بالتصرفات والسلوكيات الغريبة لأفراد طاقم الفضاء وهذياناتهم وما يرافقها من أحداث غامضة وعبثية، ويصاب بحالة من الاضطراب النفسي، تجعله فريسة للهذيان والهستيريا، فيشك بوجوده ككيان مادي وحسي، عندما يرى زوجته هاري المتوفاة قبل سبع سنوات ويعيش معها اليوميات والتفاصيل الدقيقة مع أفراد طاقم الفضاء، لنتبين في ما بعد أن سولاريس هي رحلة إلى أقصى المناطق عمقا في الذاكرة البشرية، أو مكان لامتناه في كون يعيد تكوين نفسه، فهو قادر على استحضار أي كائن حي عن طريق الهواجس والذكريات والرغبات المكبوتة، وفيه تجسيد رمزي لفكرة المثالية التي ترى أن العالم موجود في أفكارنا وتصوراتنا فقط ، وهناك حضور وتأكيد على الحرية المرتبطة بالإدراك العميق لجوهر الذات، وعلى صراع التناقضات كالخير والشر.. السعادة والبؤس.. العلم والأخلاق.. الحقيقة والوهم.. القلق الوجودي النابع من العدم المطلق.. والبحث عن مسار حتمي لخلود النفس البشرية.
صنف بعض النقاد فيلم «سولاريس» 1972 بأنه نقد للمادية والتطور التكنولوجي الذي طغى على القيم الإنسانية والأخلاقية، مقابل توثين الآلة وتقديسها.
استخدم آندريه تاركوفسكي في السيناريو لغة نابعة من اللاوعي، يمكن أن يتكلم بها النائم في حلمه، إضافة إلى براعة استخدامه للكاميرا وزواياها في التركيز على الأشياء الدقيقة، من خلال المشاهد الطويلة والخطاب البصري المؤثر، وهي في حد ذاتها رموز عميقة يراها أي شخص في أحلامه. بعد كل هذا المشاهد والأحداث النفسية الأليمة التي يمر بها كيلفن، أثناء فترة إقامته في المحطة الفضائية «سولاريس»، يعود مرة أخرى إلى الأرض هناك، حيث الكوخ والشجيرات الملتفة حوله وأناشيد الطيور وسكون البحيرة المطلق؛ يرى أن والده في البيت وما زال في انتظاره (الطبيعة وعناصرها تعاود الظهور مجددا كما في المشهد الأول من الفيلم).
كلما زاد تركيزنا في أحداث فيلم «سولاريس» ولغته الغريبة؛ سنشعر بأننا مسافرون عبر الزمن، وسنلتقي بأنفسنا في أمكنة وأزمنة مختلفة، ستتراءى لنا أيضا فكرة العود الأبدي بدلالاتها ورموزها الساحرة، التي تطرق إليها الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في كتابه «هكذا تكلم زاردشت»، ولهذه الفكرة جذور قديمة في الأساطير الهندية المقدسة حول الأبدية والخلود وإمكانية التقاء الماضي بالمستقبل في نقطة مركزية هي الآن.

٭ تفترض فكرة العود الأبدي أن الزمان يسير بشكل دائري منحن، وأن الحقيقة منحرفة لأن الزمان خط مستدير أوله وآخره (اعتمادا على ثابت الطاقة الكوني أيضا) لذا فإن الكون والإنسان والأشياء سيعاد خلقها من جديد بعد فنائها وهذه الدورة الحياتية ليست النهاية، إذ ستعقبها دورات مشابهة وإلى الأبد فالإنسان والموجودات والأحداث سيعاود ظهورها مرة بشكل مشابه لدورات الحياة التي سبقتها.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى