«الحي الخطير»… رواية لا تستجدي عشاقا

العالية ماء العينين

من السجن، وبالذات من الغرفة الانفرادية التي وُضع فيها بعد شجار دام مع أحد السجناء، يقدم الراوي/مراد، نفسه كشخصية مارقة، متحدية، مجرمة، ثائرة على كل شيء، عصية على التطويع كما حدث لملايين الناس: «لقد ولدت مكسورا منذ البداية، والذي حدث كان يجب أن يحدث، بدون ندم، بل برعب مضاعف وإصرار أكبر على الجريمة».
بدايةُ بدون مقدمات أو مقبلات، الراوي يرمي بنا في أتون حياة قاسية مدمرة ويضعنا في مواجهة «الحي الخطير» العتبة التي لا يبدو أنها تحتاج إلى تأويل. كل ما يلزمنا هو الدخــول إلى هذا العالم الروائي. هذه العتبة التي تمثل الوجه الآخر لجملة كافكا التي صدَّر بها المؤلف روايته «الخروج من البيت مغامرة خطيرة».
بلغة «بسيطة» متمنعة، قاسية، سلسة، تكشف وجهها السافر بإيقاع متناسق، بدون تكلف ولا عناء. كل لفظة تجد مكانها في النسيج الروائي. لغة سوداء مركزة، جمل قصيرة متوسطة، تتوالى كضربات رشاش تجرح ولا تقتل – يا للعجب- إمعانا في الألم. لغة لا يمكن أبدا أن تُقرأ فقط كأداة للوصف أو الكتابة الروائية، فهي تتجاوز ذلك إلى ما سماه باختين بـ»القول الحي» الناشئ عن وعي في لحظة تاريخية، وفي وسط اجتماعي لا يمكن إلا ان يلامس آلاف الخيوط الحوارية الحية، التي نسجها الوعي الاجتماعي الأيديولوجي حول موضوع هذا القول».
في «الحي الخطير» يحمل الراوي إزميله، الذي ينقلب أحيانا إلى معول، لينطلق في إعادة تركيب صورة المجتمع كما يليق بالحي الخطير (أبو رقراق، دوار الحاجة…) وليس السويسي وغيره من الأحياء التي تشبهه، بل إنه يعيد تشكيل معاني النبل، الجريمة، القوة، الفساد، الفقر والغنى، في سرد متفرد مكثفٍ بعالمه وشخوصه ومبادئه: «لم تعد الجريمة بالنسبة لي تعني العار والخطيئة والضلال، بقدر ما تعني الدفاع عن النفس».

« الحي الخطير» رواية، تؤخذ رشفة واحدة، ولكنها تسري معك طويلا، وقد ترافقك وتغير تفكيرك ورؤيتك، ليس لأن أحداثها جديدة أو عوالمها لم يسبق إليها أحد، ولكن لأنها أمواج «حارة» «نابضة» تحاصرك حتى تشعر كمن يشرب ماء مالحا لا يروي ظمأه ولا يستطيع الابتعاد عنه.
يبدأ الراوي حكايته، من الأتون. يندفع صوت حاد قاس حاقد يعلن آراءه، قراراتِه، سخطه، نقمته. وفي خطواته، رغبةٌ في هز القارئ/ المتفرج، وإرباكه، بل ربما إخافته. ليتسلى بمنظره هاربا أمام تقدم الحكي. وحدهم أولئك الذين سيقاومون ويستمرون، يستحقون معرفة البدايات، حينما كان الحي الخطير يعيش أيامه الرتيبة منغمسا في الفقر والبؤس في حياة تكاد تبدو، طبيعية، قبل أن يتضح عمقها وينفجر بطنها: «تظل الحركة دؤوبة عند الفران طيلة النهار. نساء كثيرات يتراءين من بعيد كأسراب نمل، وأطفال على رؤوسهم وصلات». لكن هذه الروائح الزكية المثيرة، ما تفتأ أن تتراجع أمام قوة رائحة الدم والعفونة والفساد، حين يتحول الفران نفسه في الليل… إلى «وكر لتجارة المخدرات بالجملة محروسا بعشرات الجنود الأشداء الملثمين المسلحين الذين ليس لديهم ما يخسرونه». إنه تاريخ «الحي الخطير» الذي يشرع الراوي في تشريحه وتفكيك بنائه وتتبع دروبه عبر ندوبه. وهو أيضا الفضاء الذي ولد فيه خاله الذي اختفى ذات ليلة بصحبة زوار الليل: «لم أجد بين الرسائل والمسودات ما يدل على أن خالي كان شخصا شريرا أو مجرما، كان شخصا حالما رومانسيا إلى أبعد حد منشغلا بكلمة شعب».
تاريخ العائلات والعصابات التي أحكمت قبضتها على الحي، وأصبحت تتحكم في الناس وصنعت تاريخَه وحكمت مستقبله… لْعروسي لمقدم، الذي يتحكم في حياة أهل الحي ويستعمل أفراد عائلته لرصد سكنات الناس وحركاتهم، وقد نجح الراوي في تصوير شخصية «لمقدم»، واحدة من أهم الشخصيات الممثلة للسلطة داخل الأحياء الهامشية «وقد اختارته السلطات لمهنة المقدم تلك بعناية، لما أبانه من مهارات في تشمم الأخبار وإصغائه الخارق للعادة لكل صوت أو همهمة».
العربي الفرناتشي، الشخصية «المدورة» البعيدة عن الوضوح، التي تفاجئك عند كل مفرق، وأنت تتقدم في اكتشاف ملامحها الغريبة المثيرة للتساؤلات، منذ أن قدم إلى الحي بعور في عينيه، وماضيه الغامض، وانطوائه الكامل على نفسه. اشتغل مكلفا بالفرن عند عائلة الصحراوي. كان يقوم بعمله بكل نشاط وهمة، وإصرار على احتطاب الأشجار حتى في أوقات فراغه. لكن الأمر لم يكن كما يبدو للناس. «كان في حقيقة الأمر حطاب أرواح شاردة. يتخير ضحيته بعناية شديدة في تلك القفار الوعرة الفارغة».
حكاية العربي، قطعة سيريالية مخيفة داخل نسيج حكائي مشدود إلى الواقع. لكنها تجد مكانها الصحيح داخل رقعة هذه البناء. ينطلق الراوي في وصف طريقة القتل وسحب الجثث إلى كوخ العربي، حيث موقد نار الفرن، فتبدأ طقوسٌ غاية في الغرابة والبشاعة تنتهي هندوسيا، بإلقاء الجثث في موقد الفرن بعد أن يمارس عليها مرضه وساديته. تنساب الحكاية وتولد من تفاصيلها حكايات أكثر عجبا وغرابة، تكشف عن صوت سارد قوي يصول ويجول في اللغة، يحيك علائق عبثية، سيريالية، عجائبية، فجائعية، مخيفة، تجمع بين سهولة الانهمار وقساوة الواقع. لعروسي لمقدم، العربي الفرناتشي وغيرهم، رغم ظهورهم كشخصيات ثانوية أو مساعدة، إلا أننا كلما تقدمنا في الحكي، سنلاحظ أنها تغير مواقعها لتصبح شخصيات رئيسية ومحورية. فالشخصيات الرئيسية قد لا يتسم سلوكها بالبطولة، ولكنها وكما يقول أنريكي أندرسون «تؤدي وظائف مهمة في تطوير الحدث». وهذا بالذات ما حققته هذه الشخصيات. فعندما تكاثرت عمليات القتل التي كان يرتكبها العربي تدخلت السلطة في شخص لمقدم لتعطي تشخيصها لما يحدث، وقد كان قرارها بداية عهد جديد في الحي. فقد جمع لعروسي أبناء الحي داخل المسجد، ليخبرهم بأن القايد يبلغهم أن الدولة اكتشفت وجود عصابة من السياسيين الملحدين، الذين لا يصومون رمضان ويسعون إلى تخريب البلاد والعباد، معلنا أن «كل من اختفى فجأة ولم تظهر له ظاهرة أبدا فهو منهم، وقد أوقعته فعاله في شباك القانون».

وهكذا أصبح المجال مفتوحا أمام العربي لمزيد من القتل، وأمام السلطة لتصفية حساباتها، وأمام العصابات للمزيد من الترويع، ولكل من أراد أن يصفي حساباته مع الآخر. لقد نجح الراوي بمبضع خبيرسوسيولوجي، تشريح الحي الذي يمثل كثيرا من الأحياء المترامية على هامش المدن، التي غالبا ما تصبح مأوى للقادمين من البوادي.
بعد الغوص في هذا التاريخ الأسود الذي أوصل الحي إلى ما هو عليه من الخطورة، يأتي خروج مراد وعبد الرحمن ورشيد في هذه الأجواء، أمرا طبيعيا. وهو ما عبر عنه ببساطة بقوله:» لم يكن الإجرام عيبا». ولذلك رغم كل ما بذلته أمه لكي يدرس وينجح في الابتعاد عن أجواء الجريمة و»الفساد» إلا أن الأوان قد فات وبذرة الشوك كانت قد أينعت كما يقول. وسط هذا الخراب، في عالم «كل أبنائه ليس لهم آباء «تبرز» الصداقة» كقيمة لم تستطع أي قوة ان تنزعها، بل تبدو الشيء الوحيد الحقيقي وسط هذا الجنون. هذه الصداقة التي فقدها مراد بعد مقتل صديقيه، على يد السلطة وعصابة الشبعة، حسمت المعركة نهائيا: «البشر كلهم مجرد حثالة». ويختتم الراوي رحلته من وراء القضبان هناك حيث بدأ الجزء الأخير من الحكاية معلنا: «أنا حي فقط لأهرب إنها مسألة وقت فقط».
أول ملاحظة يخرج بها قارئ رواية «الحي الخطير»، هي نجاح هذا العمل المشدود إلى واقع القاع، بكل سواده وبشاعته، في الارتقاء به إلى عمل فني يحقق شرطه الإبداعي. عمل مفتوح على قراءات متعددة متجددة مختلفة، بل متضاربة أحيانا، ولكن تحقق لها ما يجعلها «تلج النص من بوابة الانفعال بحيوات التشكيل النصي الدائمة الإغراء والإدهاش والتحدي».
«الحي الخطير»، العنوان/العتبة، الذي احتضن هذا العمل الروائي وأعطاه قوته وعمقه وتميزه، ينضم إلى قافلة أعمال أدبية مهمة ألهمتها الأماكن واستطاعت أن تحوز البطولة بدون أن تسقط في فخ الواقعية الفجة.

المصدر:القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى