المفكرون في الأرض

شعبان يوسف
Latest posts by شعبان يوسف (see all)

مما لا شك فيه، ولا جدال كذلك، أن الإنسان بشكل عام، يسعى طوال حياته، منذ ولادته الأولى، حتى ساعة رحيله الأخيرة، كان وما زال يسعى قدما من أجل توفير طعامه بشكل أساسي، وهذه وظيفة أوجدتها الطبيعة الأولى منذ بداية الخليقة، وكان الإنسان يحاول أن يهيئ لنفسه، ثم لعائلته، ثم لقبيلته، كافة الظروف المناسبة لتوفير ذلك الطعام وكافة المتطلبات المادية الأخرى، مثل الملبس ووسائل النقل والحفر وأدوات اتقاء الظروف المتقلبة للطبيعة، أي حماية جسده من برد الشتاء، وحرارة الصيف. وتعلّم الإنسان الأول عبر تجاربه البدائية، أنه كلما أبدع آلة جديدة، وفّر على نفسه مشقات كثيرة، واستطاع أن يدرك الفرق الذي ينتج عن إزالة تلك المشقات باختراع الآلة، فبالتأكيد أن حفر الأرض بالأيدي، يأخذ جهدًا ومشقة وكدحًا أكثر مما يحدث له بعد اختراع الفأس البرونزية، والتي تحفر بقدر أكثر سرعة، وأكثر إنجازًا وسهولة. ثم تطورت الآلة لكي تصبح محراثًا تجره الدواب، إلى أن وصل الإنسان في العصر الحديث إلى صناعة آلات أكثر تطورًا لاختصار الأوقات الباهظة، وتوفير الجهود المضنية، التي كانت تستهلك قدرًا كبيرًا من قوة الإنسان في كافة عصور تطوره.

كانت البشرية تعمل وفق تطورات وجهود مادية شبه محسوبة ومحددة بكل المستجدات والاكتشافات المادية الملموسة، بالتالي نشأت المجتمعات وتكونت، واستطاعت أن تنظّم نفسها في دول وممالك، وظلّت تتطور حتى وصلت إلى ذرى سياسية واجتماعية واقتصادية تحتاج إلى دساتير ونظم وشرائع ولوائح وقوانين، ومن ثم لا بد أن تكون هناك تلك الصفوة التي تضع تلك اللوائح والقوانين، وكذلك كانت هناك فئات، أشكالًا وأفكارًا متخيلة لكي ترشد تلك الكتل البشرية نحو المستقبل، ومن هنا نشأت الفلسفات والأشعار والروايات والملامح، وعرفنا ما يسمى بجمهورية أفلاطون، ويوتوبيات أخرى ترسم للعالم القديم والحديث والمستقبلي حدودًا ومعالم تكاد تكون مفرطة في الخيال. وبالطبع فالأحلام التي تقتحم الأرواح والعقول، أحلام مشروعة، وقابلة للتنفيذ، فـ”لكل منا حياتان، حياة الواقع التي يعيشها الإنسان متأثرًا بالوسط الزماني والمكاني، وحياة الخيال التي يرغب في أن يعيشها. والفرق بين الحياتين هو فرق بين الموجود الناقص وبين المتخيل الكامل، أو بين ما هو موجود على الرغم منا وبين ما يجب أن يوجد وفق خيالنا وطين رغائبنا”(1).

فالفلاسفة والعلماء والأدباء كلهم يتخيلون ويحلمون ويكتبون ويشطحون، وفى كل واد يهيمون، وهم الأكثر جموحا وطرحا للأفكار الجانحة، والخيالات الجامحة، وتشتد حدة هذه الأفكار والأحلام إذا اشتدت المجتمعات انحرافا وميلا نحو العرج أو الفساد، أو إذا اضطربت المعيشة سياسيا وفكريا واقتصاديا، ففي كثير من مراحل تطور المجتمعات، نجد أن القوى البشرية تضيق بالقوانين المنظمة لحركتها، وتجد تلك القوى البشرية نفسها في صراع مع تلك القوانين والشرائع، فتثور، كمن يضيق عليه ثوبه، فيمزقه، ومن ثم يأتي دور المفكرين والفلاسفة الذين يتخيلون يبدعون ويشطحون وفقا لخبرات روحية عميقة وشاملة، خبرات مادية شبه ملموسة، “والفيلسوف ومن إليه من المفكرين يختلفون عن الكاهن المصري القديم، الذي يمثل أحلام سواد الأمة من حيث أنهم لا يجعلون ميدان حلمهم في العالم الثاني، فإن همومهم الذهنية مقصورة على هذا العالم والناس لا الملائكة في السماء هم موضوع كلامهم وخيالهم، فهم يرون من الخبط والخلط في الهيئة الاجتماعية ومن الظلم والإسراف في معاملات الناس ما يحثهم على اختراع نظام أوفى يضمن لهم أكمل ما يتوهمون من صور العدالة والصحة والعمار”(2).

وعلى هذه الوتيرة تبدع تلك الفئة التي تسمى بالشعراء والمفكرين والفلاسفة، تلك التصورات والقصص والقوانين واللوائح والشرائع، وكذلك النظم الاجتماعية والقصائد والروايات والمسرحيات، تلك البنايات الخيالية التي تحلم بكون أفضل أو أكثر خيرا، ويحق لنا أن نتساءل: “ما الشعر؟ وعلى أي ملكة من ملكات النفس يعتمد؟ وما الفلسفة؟، وبأي ملكة من ملكات النفس تعتز؟ أليس الشعر لونا من ألوان التصور، وضربا من ضروب الحسّ والفهم، أقل ما يمكن أن يوصفا به أنهما يعتمدان على الخيال قبل كل شيء؟ يعتمدان على الخيال، فيدركان الحقائق، ويحكمان على هذه الحقائق، لا كما ينبغي أن يحكما عليها، بل كما يستطيعان أن يحكما عليها”(3).

وهنا لا يبالغ طه حسين فيما ذهب إليه من التصورات والقصائد والنظم الفكرية والفلسفية التي ذهب واتبعها الشعراء والفلاسفة من قبل، وتحمّلوا أشكالا من الصلف والعذاب والتنكيل بهم، جرّاء ما ارتكبوا من حماقات، لأن الإنشاءات الفكرية غالبا ما تأتي عكس المستقرات التي أرساها القادة السياسيون والفاتحون والمستبدون، فأي تفكير جديد، أو حتى إشارة لتفكير جديد، ينذر بانقلاب في النظم الاجتماعية، والفكرية، والسياسية، والتاريخ مليء ومكدس بمن تعرّضوا لمثل هذه القصص من التنكيل والعذاب، منهم من ظلّ قابضا على اكتشافه وقناعاته وأفكاره، وذهب إلى حتفه راضيا ومقتنعا وربما كان صاغرا، مثل سقراط الذي تناول السم دون أي تردد، ومنهم من تراجع واستنكر اكتشافه بقسوة تحت التهديد الذي تعرّض له، مثل العالم “جليليو”، الذي اعترف خوفا أمام قضاته في المحكمة، بأن الأرض ليست كروية، وما ذلك القول إلا خدعة كبيرة، ومن ثم أنقذ حياته من العدم، ولكنه عندما خرج من المحكمة، وقف متأملا ما ومن حوله، ودقّ الأرض بعنف وهو يصرخ غير مصدق لما حدث وقال: “ولكنها تدور”!، ومن هنا عمل ما جعله يفلت من حكم القضاة الزائلين، وأنقذ حياته من بطشهم، حتى لو كان قد خالف ضميره، وبعيدا عنهم راح يصرخ بكروية الأرض لكي يرضى ضميره المطعون بما قاله، وبما ارتكبه قضاته.

ولا تفوت هذه الواقعة على فنان ومثقف كبير يدرك قيمة الحدث، فيحوله إلى دراما مسرحية عظيمة، الفنان هو الألمانى برتولد بريشت، والمسرحية هي “حياة جاليليو”، وفيها يدير حوارا لأوسع وأعمق كارثة بين العلم والدين والقضاء، فنحن وبريخت والتاريخ أمام رجل علّم العالم بأفكاره الثورية الجدية في عالم الميكانيكا والفلك، فأحدث نتائج خطيرة في علوم الاجتماع والفلسفة والسياسة أيضا، وتشعبت نظريته، إذ كان يلتقط التلسكوب البدائي، والذي كان يباع في أسواق هولندا، فيعمل على تطويره، ويقتحم به متاهات الكون، ويكتشف أسرار المشترى، ولم يعجب هذا رجال الدين والسياسة والعلم والقضاء، وتعرّض لأشكال من الضغط والإرهاب، وهذا جعله يتنازل عن أفكاره وينكرها، فتتراجع الدنيا وتهتز القيم، وتختنق كل الأنوار العلمية المتوهجة على سطح أوروبا المظلم”(4).

تعتبر حكاية سقراط وجاليليو من القصص والحكايات التي توزعّت على كافة المفكرين والشعراء والفلاسفة والروائيين الذين مرّت بهم البشرية، إذ أن لكل شاعر أو مفكر أو فيلسوف، حياتين، الأولى هي التي يبدع فيها الفنان أو المفكر كافة تصوراته الشعرية أو الفكرية أو الروائية، وعندما تصطدم تلك التصورات بالواقع، يختار الطريق التي تناسب قناعاته أو قدرته على المواجهة، ولدينا الشاعر العظيم إزرا باوند، وهو شاعر استطاع أن يتبوأ منصة عالية في قول الشعر وإنشاده وتأسيس مدرسة له، وعندما كان يعيش في إيطاليا أيام الفاشيستى موسولينى، راح ينتصر له ويشيد بإنجازاته ومذهبه وانتصاراته الأولى، “ويشير في أحاديثه إلى الرئيس الأمريكي ب(تلك القسوة)، وإذا تحدث عن الكابيتول_وزارة الدفاع_ قال (دورة المياه)، كما كان من عادته أن يشتم علماء النفس ذوي الأسماء اليهودية”(5)، ووقف في إذاعة الفاشيست لكي ينشر أفكار موسولينى، وعندما سقط موسولينى، وسقطت معه دولته وأفكاره، وديست تلك التوجهات الموسولينية الفاشية بأحذية المنتصرين، ادعّى باوند الجنون، وهذا نوع من التنصل التام لكل ما كان من ينتصر له من أفكار، لأن الحقيقة الطبية، والتي اتفق عليها أطباء كبار وكثيرون، ولكن بشكل شفوي، هي أن “باوند” لم يكن مجنونا، ولم يكن تائها، ولكنه كان خائفا من بطش القادة المنتصرين، وكذلك الشعب الذي أدانه بقوة، ويقول فولر تورى: “..وتقارير علماء النفس مملوءة بملاحظات متفرقة عن محاولاته لتزييف الأعراض التي تنتابه، ويبدو أن محاولاته لم تنجح في استغفال الأطباء، فقد لاحظ أحدهم أن ضعفه وقتي.. يزول ويعود بالطريقة نفسها”(6) ولم يكن موقف إزرا باوند غريبا ولا مدهشا عن رهط كبير من المفكرين والفلاسفة والشعراء في التاريخ، وليس المتنبي بعيدا عن ذاكرتنا العربية، وكذلك عبد الرحمن ابن خلدون الذي تفاوض مع تيمور لنك، وكتب شعراء وروائيون حوله وعنه كتابات تفسر مواقفه تفسيرات مختلفة، منها رواية “رجل في القاهرة” للكاتب المصري أحمد رشدي صالح، والتي نشرت عام 1957 في القاهرة، وهي أول رواية تعالج موقف ابن خلدون من السلطة، ثم جاءت مسرحية السوري سعدالله ونوس “منمنمات تاريخية” عام 1994، ثم جاءت رواية “العلّامة” للمغربي سالم بن حميش، والبناءات الفنية الثلاثة عالجت علاقة ابن خلدون بالسلطة بطريقة مختلفة، وكان المغربي سالم بن حميش، أكثرهم تعاطفا معه، وتبنيا لما ذهب إليه، وكان رشدي صالح متأرجحا بين الإدانة والتعاطف، ولكن سعدالله ونوس لم يكن متعاطفا على وجه الإطلاق، بل اعتبر ابن خلدون خائنا بشكل كامل، ولم يتعاطف معه، حتى مع وفاة ابنه، ورأى أنه كان خادعا، وورط بلاده في الخديعة والهزيمة، على خلفيات شخصية كان يمكن له أن يتفادها، ويقفز عليها.

هنا لا بد أن ندرك المأزق الذي يقع فيه المفكر والشاعر والفيلسوف بين ما يصبو إليه، ويبدعه قبل أن يصطدم بالصخور السياسية والاجتماعية الواقعية، ولا نقصد تلك الصخور الكامنة في السلطة وعروش الحكم فقط، بل تلك الصخور التي تتوزع بين العروش والشعوب التي لم تكن أحيانًا مؤهلة لاستيعاب ما يطرحه المفكر والشاعر والفيلسوف، فعلى سبيل المثال: “سقراط كان قليل الميل إلى الديمقراطية، كما كان شديد البغض للاستبداد، عدوّا للأرستقراطية، وقد أغضب هذه الطبقة كما أغضب الشعب : أغضبها حين أبى على الطغاة الثلاثين ما أرادوه عليه من المعونة، وحين عرّض نفسه بذلك للخطر، ومن هنا لم ينته القرن الخامس حتى كان سقراط قد ألّب على نفسه الديمقراطية المنتصرة والأرستقراطية المنهزمة”(7).

هذان الموقفان النقيضان، لسقراط ولجاليليو، يؤديان إلى إدراكنا بأن الكتّاب والمفكرين والشعراء والفلاسفة لهم حياتان، الأولى هي التي يبدعون فيها وينشئون كتاباتهم وتصوراتهم وقصائدهم ومسرحياتهم بكل حريّة، أو ببعضها، وهذه حياة تكاد تكون بعيدة نسبيا عن تلك التوقعات التي تحدث بعد إعلان تلك القصائد والروايات والأفكار، وهي حياة أشبه ما تكون سماوية، وتغازل الخيال المحض، وكأنه حياة مغايرة، أما الحياة الأخرى، فهي التي يعيشها ويحياها ويتنفسها هذا الشاعر، وذلك المفكر، أي الحياة في الأرض، الحياة الواقعية، وهي التي تتجادل بقوة مع الحياة المتخيلة، والسماوية، والحياتان كثيرا ما تصطدمان، وربما يعمل الشاعر أو المفكر دوما على أن يستظهر حياته السماوية والمتخيلة، كما أنه يعمل على إخفاء حياته الأرضية والواقعية التي تظهر بعضا من سلوكه اليومي، وهناك من لا يخشى ذلك، وهناك من يحاول أن يتنكر لماضيه الذي وقعت فيه أحداث لا تتناسب مع الحاضر، سنجد مسارات وأسباب ومآزق شتى، تواجه المفكرين والشعراء والروائيين والفنانين، ورغم ذلك فالفنان والشاعر والروائي والفيلسوف، كل منهم يمارس حياته الإنسانية بالشكل الذي يتناسب مع ميوله وطبائعه وثقافته، فجان بول سارتر المفكر الوجودي، والروائي والمسرحي، كانت حياته العاطفية مع سيمون دي بوفوار، تسير بشكل طبيعي، رغم غرابة ما يحدث فيها، فهو يرد على أحد المحررين بعدما سأله قائلا :”لقد كرّست سيمون دي بوفوار صفحات عديدة عنك في مذكراتها، ولكنك لزمت الصمت من جانبك، وهذا يثير الدهشة، وكان ردّ سارتر مطولا، ومنه :”..منذ ثلاثين عاما.. لم ننم ذات ليلة، كما تقول، ونحن مختلفان، صحيح أننا اختلفنا ذات مساء، ولكن الخلاف كان غبيا وسخيفا، فقد تغاضبنا، ولعلك لا تدرك السبب، وكانت القضية فلسفية، أو على الأصح بسبب قضايا لم تنجح في طريقة عرضها وإثارتها”(8).

وفى حوار مع سيمون دي بوفوار في العدد ذاته، وقد صدر هذا العدد بمناسبة الزيارة التاريخية التي كانت في شهر مارس من العام نفسه، وأوضحت بوفوار عديدا من المشكلات الغامضة التي كانت تشغل الناس، مثل كيف يعيش المفكر أو الأديب أو الشاعر حياته العادية، وأبانت بأنه لا يعيش طوال وقته شاعرا أو فيلسوفا، ولكنه يفكّر كمواطن تقليدي أحيانا، وفى مسألة الحب مثلا عند النساء قالت: “..النساء أقدر على التعاطف العميق، وهذا التعاطف هو أساس الحب، ولعل ذلك لأنني أحس بالمرأة من إحساسى بالرجال، ولهذا فشخصياتي النسائية أكثر ثراء من شخصياتي الرجال”(9).

وبالطبع فإنجازات جان بول سارتر، يعلمها القاصي والداني، ويدركها الشرقي والغربي، وهو الفيلسوف الذي عمل على تطوير الفكر الوجودي في الغرب، ثم شاعت أفكاره في العالم، وقاتل من أجل الحرية، وانتقد فكرة حرية المجموع في مواجهة حريّة الفرد، ورغم ذلك، ومن أجل ذلك، حارب جيوش النازي عندما اجتاحت كل أوروبا، وبالتالي كانت فرنسا هدفا رئيسيا له، باعتبارها واحة الحرية في العالم، وكتب مجموعة كبيرة من الروايات والمسرحيات، وكان أشهرها “دروب الحرية، وسجناء الطونا، والذباب، والغثيان، موتى بلا قبور”، كما كتب كتابه الرئيسي عن الفكر الوجودي، وكتب دراسات نقدية وفلسفية عن فلوبير وبودلير، وعن الفنان جياكومتى، وأصدر كتابه “الكلمات”، وانتصر لحقوق الثورة الجزائرية في مواجهة حكومة بلاده عندما رآها تستعمر الغير دون أي وجه حق، وكتب مقدمة رصينة وعظيمة للمفكر والمقاتل “فرانز فانون” لكتابه “معذبو الأرض، وكتب كتابا ضد حكومة بلاده للانتصار للشعب الجزائري، وفى حق لتقرير مصيره، وكان كتابه “عارنا في الجزائر”، بمثابة صرخة حق مدويّة في وجه الاستعمار الفرنسي خاصة، وفى وجه الاستعمار عموما، وقرر فيه :”ها نحن نصل إلى النقطة التي يهدم عندها النظام نفسه بنفسه: إن المستعمرات تكلّفنا أكثر مما نغلّ” (10).

لم يكن سارتر منفردا بتلك الحيوية، ولكن شاركته سيمون دي بوفوار، كذلك الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل، ومن قبلهم الكاتب والفيلسوف والمسرحي الأيرلندي برنارد شو، الذي انتصر للمصريين عام 1906، عندما كتب عن حادثة دنشواى، وهاجم الإنجليز بقوة شديدة، وكانت كتابته عن حادثة دنشواى، البوابة الواسعة التي عرف منها العالم كله بفضيحة الإنجليز، وتورطهم في قتل أبرياء مصريين لم يرتكبوا أي خطيئة.

هؤلاء الكتاب والفلاسفة وأصحاب الإبداعات الكبيرة، لم يقفوا مع أنظمة بلادهم، عندما رأوها تستعمر وتستعبد بلادا أخرى، تحت دعاوى التبشير أو الحماية، أو التنوير، وهناك من هللوا للاستعمار الفرنسي، أو الاستعمار الإنجليزي، على اعتبار أن ذلك الاستعمار سيحمل معه التنوير والحضارة لبلادنا، وربما يكون ذلك فيه بعض الصحة، ولكن شعوب المستعمرات أعطوا دروسا قاسية للمستعمرين، فدائما الاستعمار يأتي حاملا آلات النهب ومحو القومية بضراوة لكافة المستعمرات التي أقام فيها، وفى هذا الشأن يقول هنري لورانس في دراسته عن الحملة الفرنسية : “..إن نابليون بونابرت ترك مصر عائدا إلى فرنسا سرّا، لأنه لم يحقق حلمه الشرقي، فمصر الحقيقية ليست هي التي حلم بها هذا الفاتح”(11) ولدينا الجزائر نموذجا، والتي مكث فيها مائة وثلاثين عاما، والاستعمار الإنجليزي الذي مكث في مصر أكثر من سبعين عاما، وكما وقف سارتر في وجه نظام بلاده في الخمسينات، هناك ألفرد بلنت الإنجليزي، صديق الشيخ محمد عبده، دافع عن عرابي عند القبض عليه ونفيه خارج البلاد، وقاد حملة واسعة وقوية للدفاع عنه، وجعل المحامي “برادلي” يدافع عنه دفاعا مجيدا، ثم كتب كتابه العظيم “التاريخ السرى للاحتلال الإنجليزي لمصر”، وكشف فيه عن المؤامرات التي تم تدبيرها لكي تصبح مصر مستعمرة إنجليزية.

وإذا كان هذا شأن المفكرين والفلاسفة والمبدعين الغربيين، فحظيت بلادنا بشعراء وكتّاب ومفكرين حظوا بحيوات ثرية ومزدحمة، لدرجة أن تلك الحيوات كانت تصل إلى حدّ الاختلاف والتناقض، فالبدايات دائما ما تكون ساخنة وثورية أو متمردة، وفي لحظة تاريخية ما، ينكسر القوس الحاد، أو ينثني، وعندنا عباس العقاد، ود طه حسين، والشيخ على عبد الرازق، وتوفيق الحكيم، وخالد محمد خالد، ود. مصطفى محمود، وصلاح عيسى.. إلخ.

وربما يكون توفيق الحكيم كان له النصيب الأعظم في إثارة المعارك والقضايا الحادة، ولا أعتقد أن الحكيم كان يثير هذه المعارك من أجل الشهرة، أو الاستعراض، فهو لم يكن محتاجا إلى ذلك، بل رافقته تلك الشهرة المحلية والعالمية منذ بداياته الأولى، وذهابه إلى فرنسا، وترجمة إبداعاته المسرحية أولا بأول إلى اللغة الفرنسية مباشرة، وكتب كتابيه المهمين “عصفور من الشرق”، و”زهرة العمر” كسيرة أدبية وذاتية بين الشرق والغرب، وحظى الكتابان بشهرة عالمية، وجلبا له أموالا طائلة، ورغم هذه الأموال، إلا أنه كان مشهورا بالبخل، أو هل هو بالفعل كان عدوّا للمرأة، أعتقد أن هذه إشاعات كانت تستوجبها أشكال الطرافة.

ولكن توفيق الحكيم الذي تأثر به الرئيس جمال عبد الناصر، وصرّح بذلك عندما قرأ روايته “عودة الروح”، وعندما جاءت حملة التطهير بعد ثورة يوليو 1952، وتضمنت الكشوف اسم توفيق الحكيم، والذي كان يترأس دار الكتب آنذاك، وكان التقرير يقول بأن الحكيم ليس كفؤا لقيادة هذا الصرح العظيم، اعترض جمال عبد الناصر على هذا الاستبعاد، واستثناه من التطهير، كذلك عندما هاجمه كثير من النقاد عام 1958، انزعج جمال عبد الناصر، وقرر منح الحكيم قلادة النيل.

وبالطبع كان الحكيم حكيما، ومنحازا لجمال عبد الناصر، وانتصر له في كل خطواته، وكتب في كل المناسبات مقالات تأييد، وهذا كان شيئا طبيعيا بالنسبة للحكيم، لأن النظام الناصري لم يكن في حرب معه، فكان الحكيم وثورة يوليو يتبادلان المحبة والغزل طوال الوقت، وعلى مدى الثمانية عشر سنة التي حكم فيها عبد الناصر البلاد، ولكن الحكيم فاجأنا جميعا، وفاجأ الحياة السياسية كلها في يونيو عام 1974، أي بعد رحيل ناصر بما يقرب من أربعة أعوام، بكتابه الشهير “عودة الوعي”، وشنّ هجوما ضاريا على عبد الناصر وثورة يوليو والنظام الناصري كله، وزعم في مقدمة الكتاب :”لم يكن في عزمي ولا نيتي الإذن بنشر هذه الصفحات يوم كتبتها، كان دافعي إلى كتابتها في ذلك اليوم هو انقضاء عشرين عاما على ثورة يوليو، وتأملي هذه الفترة من تاريخ بلادي، والجو من حولي مكفهر بالأحداث الأليمة، والصدور منقبضة بكابوس الهزيمة..”(12).

وبالطبع لا نستطيع أن نصدّق هذا الدافع الذي ساقه توفيق الحكيم، لأن الذي يريد أن يتأمل الثورة، لا ينتظر عشرين عاما، ولو تأملنا نحن تلك الفترة التي أعقبت حرب وانتصار 1973، جاهر كتاب ومفكرون كثيرون بفتح ملف ثورة يوليو 1952، وكتب أدباء ومفكرون كثيرون ذلك الملف بقسوة، وكان نجيب محفوظ قد كتب روايته “الكرنك”، والتي تحولت إلى فيلم فيما بعد أخرجه الفنان علي بدرخان، ودسّ في بداية الفيلم مشهد فرحة الجماهير بثورة التصحيح في 15 مايو 1971، وهذا المشهد لم يكن مرصودا في الرواية، ومازال وضعه في مقدمة الفيلم لغزا لم يفسّره المخرج حتى الآن، إلا أن تفسيرنا يمكن أن يكون جاء على سبيل الممالأة، وربما تكون الرقابة طلبته، كما كتب فتحي غانم روايته “حكاية تو”، وهي عن القائد الشيوعي شهدي عطية الشافعي الذي قتل في المعتقل من جراء التعذيب، ونشرت الرواية مسلسلة في مجلة روز اليوسف، كما صاحب هذه الروايات مجموعة من المذكرات للشيوعيين الذين كانوا معتقلين في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، ومنها “شيوعيون وناصريون” لفتحي عبد الفتاح، و”الأقدام العارية” لطاهر عبد الحكيم، وغيرها من كتابات متنوعة، أي أن الأمر كان حملة منظمة باقتدار على الهجوم على ثورة يوليو وجمال عبد الناصر، وكان كتاب الحكيم جانبا من تلك الحملة المدبرة في زعمنا.

وكانت كلمات توفيق الحكيم صادمة بالفعل، واختصر الحكيم فترة جمال عبد الناصر في أنه كان يحكم وحده :”..ومن يدرس بعناية الأحداث السياسية والعسكرية والاجتماعية التي وقعت في مصر على مدى حكم عبد الناصر يجد أن المحرك الخفي الحقيقي لها، كان هو الانفعال ورد الفعل وليس التفكير الرصين الهادئ الرزين المبنى على بعد النظر”(13).

لم يمكث الكتاب طويلا حتى أثار جدلا واسعا، وكتب لطفى الخولي رئيس تحرير مجلة الطليعة، والكاتب المسرحي والمحلل السياسي، رسالة وجهها للحكيم، ونشرتها المجلة آنذاك، وسرد فيها كثيرا من أفكاره حول الحكيم، وفي نهاية الرسالة كتب: “إذن لماذا لا نتحاور_يا سيدى_ حوارا جادا منظما ومسئولا، بهدف الوصول إلى تشخيص موضوعي للتجربة والواقع بهدف فرز الإيجابيات عن السلبيات واستشراف طريق المستقبل: معطياته، احتمالاته، مخاطره، ضماناته”(14).

بعد هذه الرسالة التي وجهها لطفي الخولي باسم اليسار، وذلك لإجراء حوار مطول معه، وردّ الحكيم على الرسالة فورا، ووافق على إجراء ذلك الحوار، وبالفعل بدأت المحاورات مع الحكيم، واستمرت تلك الحوارات تنشر على مدى تسعة أشهر في المجلة، وشاركت فيها كوكبة من المفكرين اليساريين منهم أحمد عباس صالح وأبوسيف يوسف ولطيفة الزيات ومراد وهبة ومحمد سيد أحمد وخالد محيي الدين، وغيرهم، وكان حوارًا مثمرا للغاية.

وإذا كانت مجلة الطليعة استجابت بشكل هادئ للحملة المدبرة للهجوم على عبد الناصر وثورة يوليو، جاءت كتابات أخرى حادة وجارحة بشكل شديد اللهجة، وأشهرها كتاب “الوعي المفقود” للكاتب والمفكر محمد عودة، والذي قدمه بعبارة نقول: “قال الموسيقار الشاب للمايسترو الكبير: (بالنسبة لتوسكانينى الفنان فإنني أحني رأسي، وبالنسبة لتوسكانينينى الإنسان..)، وهنا خلع حذاءه وانهال عليه”(15)، ولم يقتصر الأمر على هذه العبارة الحادة والجارحة فقط، ولكن الكتاب كله جاء على هذه الوتيرة، وهناك كتب أخرى صدرت لحسنين كروم، ومحمود مراد، وغيرهم، هاجمت الحكيم بضراوة.

أما المعركة الأخرى التي فجّرها توفيق الحكيم، فكانت عندما نشر مقالا في جريدة الأهرام بتاريخ 3 مارس 1978، عنوانه “الحياد”، واستهله بعبارات كانت حادة أيضا، إذ قال :”لن تعرف مصر لها راحة، ولن يتم لها استقرار، ولن يشبع فيها جائع إلا عن طريق واحد: يكفل لها بذل مالها لإطعام الجائعين والمحتاجين، وتكريس جهدها للتقدم بالمتخلفين، وتوجيه عنايتها إلى الارتقاء بالروح والعقل في مناخ الحرية والأمن والطمأنينة ….ما هو الطريق إذن إلى واحة الراحة والاستقرار وطعام المعدة والروح والعقل؟.. إن هذه الواحة المورقة المزهرة اسمها (الحياد)” (16).

بعد نشر هذا المقال، كتب د وحيد رأفت مقالا حادا للرد عليه عنوانه “الحياد المرفوض”، وتدخل د حسين فوزي منتصرا للحكيم ومهاجما د وحيد رأفت بمقال عنوانه “أفزعني رأي الدكتور وحيد رأفت”، بعدها اتسعت رقعة المعركة وعمقها، وكتب كثيرون منهم د يوسف إدريس ود لويس عوض، ود محمد إسماعيل، وأحمد بهاء الدين، وغيرهم، بين منتصر للفكرة، ورافض لها، وأصدر الناقد والمفكر الأدبي رجاء النقاش كتابا حادا كذلك عنوانه “الانعزاليون في مصر”، وهاجم فيه توفيق الحكيم ولويس عوض ود حسين فوزي.

وبالطبع كانت المعارك في تلك الفترة ساخنة جدا، فبعد كتاب توفيق الحكيم، نشر المفكر دكتور فؤاد زكريا ثلاثة مقالات بداية من 14 إبريل 1975، وهاجم فيها جمال عبد الناصر أيضا، كما حمل على اليسار، واعتبر أن كل ما كان يرتكبه جمال عبد الناصر ونظامه من أخطاء_هكذا_ شاركه اليسار بكل قوته، واعتبر أن صدور مجلة “الطليعة” في يناير 1965، مجرد رشوة لشراء رضاه، كانت المقالات حادة في التحامل على عبد الناصر، وكذلك على اليسار، مما دفع كثيرا من الكتّاب إلى الرد، حتى لو كانوا غير منتمين إلى اليسار، مثل نجيب محفوظ الذي كتب مقالا قصيرا عنوانه “أنفى عن الماركسيين تماما شبهة الرشوة”، واستهل مقاله العاقل بمبدأ عام، إذ قال : “أحب أن أسجّل منذ البداية أن المعاصرين يعتبرون أسوأ المؤرخين، لأن اندماجهم في التجربة يحول بينهم وبين الحكم الموضوعي السليم، يصحّ لهم أن يعطوا شهادة، وهذه الشهادة تنفع مستقبلا كوثيقة للمؤرخ، لذلك أنا لا أستطيع أن أعطي حكما تاريخيا بالمعنى الحقيقي لفترة عشتها وما زلت أعيشها .. ولكنني سأدلي بشهادتي”(17)، وبعد استطرادات كثيرة لنجيب محفوظ قال :”بالنسبة لاتهام د فؤاد زكريا لليسار الماركسي بأنه خضع لرشوة عبد الناصر، فدافع عن التجربة، فإنني أنفي عن الماركسيين شبهة الرشوة تماما”(18).

وبالطبع فقضية “المفكرون في الأرض”، يطول شرحها وسردها ومناقشتها، واستدعاء الشواهد على تعقدها، وعلى الوقوف على نقاط واضحة، لأن الأمر تقريبا يحتاج إلى مجلدات يمكن تصنيفها إلى ملفات سياسية واجتماعية وثقافية وأدبية، وما ورد سابقا، ما هو إلا مجرد مقدمة لموضوع شائك ومعقد ويحتاج إلى إحاطة أكثر عمقا وشمولا، وأتمنى بهذه الكتابة التي أعتبرها مقدمة، أكون أوفيت بعضا من هذا الأمل المنشود.

——————

(1) سلامة موسى: أحلام الفلاسفة، دار الهلال للطبع والنشر، 1926، القاهرة، ص7.

(2) المرجع السابق ص 11، و12.

(3) طه حسين، قادة الفكر، دار المعارف بشارع الفجالة مصر، 1929، ص31.

(4) برتولد بريخت، حياة جاليليو، مسرحية، ترجمة بكر الشرقاوي، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الثالثة عام 1981، ص 8.

(5) مجموعة من الكتّاب، عن جنون إزرا باوند وآخرين، ترجمة أحمد عمر شاهين، دار سندباد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2001، ص24.

(6) المرجع السابق، ص 25.

(7) طه حسين، مرجع السابق ص 68و69.

(8) مجلة الهلال، فبراير 1967، القاهرة، ص 37.

(9) المصدر السابق، ص 166.

(10) جان بول سارتر، عارنا في الجزائر، ترجمة عايدة سهيل ادريس، دار الآداب، بيروت، الطبعة الثانية، 1958، ص 306.

(11) د ليلى عنان، الحملة الفرنسية تنوير أم تزوير؟، دار الهلال، القاهرة، مارس 1998، ص100.

(12) توفيق الحكيم، عودة الوعي، دار الشروق، القاهرة، 1974، ص 5.

(13) المرجع السابق، ص39.

(14) ملف عبد الناصر، بين اليسار المصري وتوفيق الحكيم، دار القضايا، بيروت، 1975، ص16.

(15) محمد عودة، الوعي المفقود، القاهرة للثقافة العربية، 1975، ص4.

(16) عروبة مصر، حوار السبعينات، إشراف د سعد الدين ابراهيم، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام،

1978، ص 109.

(17) عبد الناصر واليسار المصري، فؤاد زكريا والرد عليه، مؤسسة روز اليوسف، 1977، ص 65.

(18) المرجع السابق ص70.

 

المصدر: شؤون عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى