إلى بناتي وأبنائي جيل الألف الثالث للميلاد

رسالة الأستاذ إبراهيم الجيدة

إبراهيم خليل الجيدة
Latest posts by إبراهيم خليل الجيدة (see all)

تحية ومحبّة..

شَغَلَنَا كآباء بحثُنا المستمر عن حلول لمشاكلنا الاقتصادية، وهاجسُنا لتأمين حياة كريمة لكم وتلبية احتياجاتكم المادية؛ عن الحوار معكم. وَشَغَلَكم انغماسكم في الحاجات المادية التي تحيط بكم من كل صوب واتجاه، عن الحوار معنا.

وعلى الرغم من أن التوصيف المتفق عليه لهذا الزمن هو وصف “ثورة الاتصالات والمعلومات”؛ إلا أنه العصر الذي شهد أكبر تجربة “انقطاع” و”تباعد” اجتماعي بين البشر في كل أنحاء الأرض. وأوسع حضور لـ”جهل” الناس عن أحوال بعضهم بعضًا.

فاستبدل الناس اللقاء الحميم والدافئ بينهم، والحوار الحي، باللقاء والتواصل على الأجهزة الباردة الميتة من جوالات وحواسيب.

وبدل النظر مباشرة إلى عيون الناس وملامحهم والحديث إليهم، والتعبير عن مشاعرنا تجاههم؛ صار الجميع يبحث عن “التواصل الاجتماعي” في “وسائط الإلكترون” الباردة، ويبحثون عن “الألفة” في حضن هذه الآلات. فصرنا جميعًا نعيش في “جزر معزولة” عن بعضنا، وانقطع التواصل والود والتراحم.

ووُلد السؤال الكبير: لماذا حدث ما حدث؟ ولماذا يحدث ما يحدث؟!

ولماذا تحولت “نعمة” التكنولوجيا إلى “نقمة”؟!

ولماذا “ضاق العالم” وكان من المفترض أن يكون “واسعًا ورحبًا”؟!

لماذا ابتعدنا عن بعضنا بعضًا، على الرغم من أننا نعيش في نفس المكان، أو البيت أو الغرفة؟!

لقد كانت “القطارات” أحد أهم معالم الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر الميلادي، لأن السكك الحديدية قربت المسافات كثيرًا بين الناس، فاستطاعوا أن يصلوا إلى أحبائهم بأسرع وقت، والتواصل معهم وتبادل الخبرات، والبحث عن حلول مشتركة لمشاكل الحياة بالتفاهم والحوار الدافئ، وبينهم تدور أكواب الشاي، أو يجلسون حول مائدة الطعام، فتزيد الألفة والتراحم بينهم وتطيب النفوس.

بينما الآن:

على الرغم من أن وسائط التكنولوجيا أسرع من القطارات والطائرات؛ إلا أن المسافات بين الناس تتسع، وتقل الألفة، وتزداد الفجوة الاجتماعية بين البشر.

فكلٌّ يأكل وحده، ويشرب وحده، ويتحدث وحده، وغابت المشاركة الجماعية.

وصار العالم موحشًا رغم الأضواء والحياة السهلة. ولم تعد الحياة جميلة وممتعة.

لم تعد الأجيال تتبادل الخبرات، وتبني مجتمع الألفة والتراحم والتواصل الحي والحقيقي.

وإذا عدنا للسؤال: لماذا يحدث ذلك؟

في محاولتي للإجابة عن هذا السؤال، أحاول أن أنقل إليكم خبرة جيل كامل، حتى يبقى لكم منا بعض كنوز تجاربنا ورؤانا وأسلوبنا في التفكير، لأن ما يبقى منا لكم هو “الحكمة” و”الخبرة” و”التجربة”، عساها تفيدكم في العبور إلى المستقبل الذي تنشدونه ونتمناه لكم.

والإجابة عن سؤال: لماذا يحدث ما يحدث رغم سهولة الحياة؟!

ولماذا تضيق النفوس بدل أن تتسع؟!

ولماذا يقل الحب والتراحم والود والمشاعر الجميلة؟!

لأن الناس:

جعلوا من هذه الوسائل التكنولوجية من جوالات وسيارات وكومبيوترات، جعلوها “غاية” بينما هي “مجرد وسيلة”.

إنها مجرد وسيلة لتحقيق هدف كبير هو تحقيق التواصل مع الإنسان.

فهي لا تمنحنا السعادة، لأن السعادة تكمن في التواصل الحي والحقيقي مع الإنسان، وتحقيق التراحم والألفة والود وبناء الجسور بين الناس، وهذا هو المعنى الحقيقي لـ”التعارف” الذي أوصانا به الدين.

فالذي يبحث عن السعادة في الآلات لن يجدها، فالجوالات وموديلات السيارات وأحدث صيحات الموضة تتبدل وتتغير، وتفقد قيمتها مع الزمن. تصبح أقل قيمة. ومهما تباهينا بامتلاكها فهي إلى زوال.

فما يبقى هو الإنسان الحقيقي، كريم الروح وكريم العقل، وتزداد قيمته كلما امتدت به الأيام، لأنه يصبح أكثر حكمة وأكثر لطفًا وأكثر كرمًا وأغنى روحًا وتجربة وخبرة. بينما الآلات تصدأ وتقل قيمتها كلما امتدت بها الأزمان.

كما أن موارد عالمنا المادية وثرواته التي كانت وراء هذا الترف وتلك الرفاهية مهددة بالنقص والضياع، بسبب العولمة المتوحشة، التي أفقرت دولًا وأممًا كانت ملء السمع والبصر، أصبحت الآن بلا موارد، وأجيالها الحديثة مهددة بالفقر والضياع.

وهذا يتطلب منكم ومنا الانتباه لهذه المتغيرات والاستعداد لهذه اللحظات، بالعمل الجاد والمثمر، والعلم النافع الذي يضمن لكم مستقبلًا آمنًا ومطمئنًا.

فما يبقى ويدوم هو التفكير المبدع والعمل والعلم النافع، وأكثر الناس أهمية هو أنفعهم لأهله وأسرته ومجتمعه.

لذلك: يا بناتي العزيزات.. ويا أبنائي الأعزاء:

استعدوا للمستقبل بالعلم والعمل الجاد، ولا تغرنكم مظاهر الحياة المادية فإنها تتغير وتتبدل وتزول.

لا تبحثوا عن السعادة في المكان الخطأ، في الآلات والأشياء المادية، فهي إلى زوال.

بل ابحثوا عن السعادة في الاجتهاد والعلم والمعرفة والإبداع لزيادة ثروة الحياة.

والإنسان الحقيقي يوجد في مواقع العمل وتنمية المجتمعات بالجهد والفكر والفنون والثقافة. فهي تزيد الإنسان ألقًا، وتجعله مفيدًا لنفسه ومجتمعه، وتتحقق له الشهرة والمجد الحقيقي، فيكتسب احترام أهله وناسه ومجتمعه، ويحصل على تقدير الإنسانية كلها، فالناس يحترمون الإنسان الواعي، المتعلم، المثقف، اللطيف، الراقي، المجتهد.

فكونوا ذلك الإنسان.

فتتسع الحياة وتصبح أكثر جمالًا..

وتصبح الحياة أقل وحشة..

ويتحقق التواصل الحي الحقيقي..

ولكم محبتي وتقديري وأمنياتي الطيبة.

 

والدكم
إبراهيم الجيدة
بيت مري Beit Mary – لبنان
5 أغسطس 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى