الكاتب.. ظاهرة اجتماعية أم قيمة أدبية؟

إنّ مما لنا فيه اتّفاق، أنْ يُشافِهَ الأدبُ الإبداعَ، شغفًا وشأنًا، حتى افتتان الجمهور به، وأنّ دخول العمل الأدبي على الناس إنما هو لتعالقه ذهنًا وأحاسيس مع مناحي الحياة التي ألِفوها، وتُعدُّ مع الوقت عنصرًا ذاكراتيًا حميمًا بالنسبة لهم، المُبكِرُ فيه من العُمر والمُتأخّرُ سواء، كصديق الطفولة، ثم زميل الدراسة على مقعد واحد، ولاحقًا رفيق العمل أو الوظيفة لسنوات طويلة. تستغرق تلك العلاقة مواقف مطردة في كل تلك المراحل من السنين تفسرها ظواهر مادية اجتماعية تحتّمُ على كاتب الأدب تفاعلًا بدَهيًّا معها بين السلب والإيجاب: الفقر والغنى، الصحة والمرض، السعادة والمعاناة، الخير والشر وغيرها مما لا يمكن رده من أحوال القضاء والقدر ووجد له سبيلًا إلى دورة التجارب الأدبية.

فالكاتب، شاعرًا كان أو روائيًا، قاصًا، مؤلفًا مسرحيًا وسوى ذلك، ربما يعي أدبه بالصدفة، ولو حدث ذلك فإنه بالتأكيد لا يسوغ له التوقف عنده، إنما التحول عنه دائمًا إلى الأفضل حتى قيام تجربة توحده مع عصره وتستدعي الناقد إلى البحث دومًا في بنية المادة التي يقدمها للجمهور، وجوهرها الإبداعي المفترض، مقروءةً – إلى عهد قريب – قبل أن تصبح أيضًا مرئية ومسموعة في عصرنا الحالي.

وجهان للتجربة الإبداعية

هذا التحول انفتح على وجهين للتجربة الإبداعية عند الكاتب: الأول اجتماعي إعلامي، والثاني فني قِيَمِيّ. لا بدّ أولًا من الاعتراف بأن حرق المراحل الأدبية هو إشكالية الإشكاليات في تاريخ الأدب العربي قديمًا وحديثًا، فكم من حقبة زاهرة بصنوف الآداب مرّ عليها النقد مرور الكرام نِتاجًا وشخصياتٍ وظواهر، فلم تتزيا بما تستحق من عناية، إنما ببعض التصورات البحثية المتسرعة في وجوهٍ منها دون غيرها، وهو ما أدى إلى تألُّقِ وشهرة شخصيات أدبية تحولت مع الوقت إلى ظاهرة اجتماعية على حساب أُخرى ليست أكثر إبداعًا بالضرورة ما سبّبَ وجهًا شلليًا للأدب الرفيع، ومشكلة تاريخية تستمد كينونتها الخلافية من قوة الفكرة الشائعة – بالصدفة أو بالقصد – فانتظم الكثير من فهم الجمهور لحقيقة قيمة المادة الأدبية الناتجة عن تلك الظاهرة وقوة إبداعيتها من عدمها. يجب التنبه هنا إلى أنّ القيمة الأدبية للنص متعلقة دائمًا بالسياق التاريخي والثقافي والاجتماعي الذي يحيط بها، فلُغة الهجاء مثلًا كانت مؤثرة جدًا في الجاهلية بسبب ما كانت تلقاه من استعداد جماهيري فعلًا وتفاعلًا في قيمتها الفنية كنص وسلبيتها كمعنى ينهض على تهميش الآخر المهجوّ، ويكشف عيوبه شكلًا ومضمونًا إلى القَدَر الذي دفع قبائل ومجتمعات بأمها وأبيها إلى الرحيل عن مكان إلى آخر بسبب قصيدة واحدة، بل وإحداث تغيير ديموغرافي في البيئة من حولها، وهو ما لم يعد ممكنًا حدوثه ولا مقبولًا اليوم. بهذا الاتجاه فعلت اهتماماتُ الجمهور فِعلها في تحديد وتعويم القيمة الأدبية لتعيش طويلًا جدًا أو حتى إشعارٍ آخر، كإعجابه بالمتنبي في شعره، والجاحظ في نثره، والهمذاني في مقاماته، وابن المقفع في حكمته، بما هي تجارب أدبية لها حركيتها الإبداعية حتمًا، وحيِّزها التأثيري المُتجدد في تاريخنا الأدبي. لكنّ الجمهور نفسه خَدَمَ الكاتب ووقع في مصيَدةِ قبوله وتسويقه كظاهرة اجتماعية من حيث لا يدري، في غفلةٍ من التنبه إلى أنّ المتلقي المتفاعل هو جزء مهم جدًّا لإتمام «بازل» تلك الظاهرة من عدمه. فقد يكون مفهومًا ومأنوسًا أن تتعالقَ تجربةَ كلِّ كاتبٍ واجهةٌ إعلامية / ظاهراتية يكون هو صورتها وأُخرى أدبية جوهرية ترتبط بجودة نتاجه، لكنّ الأمر مختلف تمامًا في حال فقدان تلك الجودة وانتفاء الإبداع الحقيقي ممّا لا يُستساغ معه الاعتياض عن رداءة النصوص بتمجيد شخصية الكاتب / الظاهرة / الصورة.

المواطنة العربية المهمشة

على هذا المستوى تنعقد الرؤية على مواد روائية كثيرة نالت إقبالًا جماهيريًا هائلًا كروايات محمد شكري التي تكورت موضوعاتها على عوالم الفقر واللصوصية والبلطجة والجنس والمرض والأمية فتبلورت معينًا صافيًا لذائقته الخاصة في الكتابة، وهو يزجيها إلى قرائه بِلُغةِ الراوي العليم لمجمل أحداثها وشخصياتها لا سيما ثلاثيته: «الخبز الحافي»، «زمن الأخطاء»، «وجوه» باثًّا فيها سيرته الذاتية بين أحوال تلك الرذائل حتى وجدت مكانها الواسع في تاريخ الرواية الحديثة، إذ لا يمكن إنكار اتصالها المُدهش بمعايش الإنسان المحلي والعربي. قدّمَ شكري حالة واقعية كان هو نفسه إحدى ضحاياها: شخصًا سيئًا متفلتًا من المعايير الأخلاقية في مراحل محددة من حياته، وابنًا شرعيًا لتلك الحالة باعترافه هو شخصيًا، ما جعلَ انخراطه التام في العالم السفلي السيئ الذي طَلَعَ منه الأمر الوحيد الذي قامت عليه تجربته الروائية حتى أصبح ظاهرةً اجتماعية من الطراز الرفيع. وبهذا المعنى كان شكري واجهة إعلامية لواقع عام منتشرٍ على مستوى مأساوية المُواطَنَة المُهمّشة في العالم العربي عبّرَ عنه بلغته الخاصة التي أقحم فيها عبارات الحكمة والمغازي والأمثولة الحسنة من دون أن تؤكد قيمتها الفنية بالضرورة ولا أن تتجاوز في إبداعيتها نصوصًا روائية مغايرة لكتّاب آخرين. في السياق نفسه دأبت أحلام مستغانمي على ترتيب قصص حب ذات مناخات شاذّة دائمًا في علاقة الرجل بالمرأة، تتقصّى الجرأة، وتجتهد في ركوب موجة التمرد النسوي المُدمن على فكرة المجتمع الذكوري واستعداء الرجل بوصفه خائنًا مدّعيًا، طامحًا دنيئًا، وطامعًا غائيًّا في أحاسيس أنثاه النقية السريرة والصافية الأحاسيس. كانت تلك الروايات مجازًا فنيًّا مفتوحًا لحكايا اجتماعية حُبلى بالإشكاليات، وتنويعًا على ثيمات مُكررة أكّدت ريادة مستغانمي في تنظيم مستلزمات إعلاء درجة حميميتها التي يطلُّ المتلقي عليها من نافذة المريد الذي لا تعنيه أدوات بِناها الفنية بين الحكاية والخطاب ولا غايتها المُفترَضَة في الكشف عن عورات المجتمع ومشاكله مما كُتبت لأجله الرواية، بقدر ما يعنيه قراءة تجارب عاطفية مثيرة تلامس غريزته بحسِّيتها وتغوص على أشكال العلاقات بين شخصياتها في لوحات القص حوارًا ومواقف. هذه المشهدية جعلت مستغانمي ظاهرة شخصية / إعلامية ونَموذجًا مُرمّزًا لسرد نسوي مطلوب للتوّ حالما يُذكر اسمها على مسامع عشاق الأدب الروائي. في الشِّعر وعلى الضفة المقابلة، فإنّ محاكاة أحاسيس معيشة في المجتمع العربي مطلب مهم للقارئ الرِّغِّيب في المعنى اللصيق بحياته، بيومياته، بهمومه وتطلعاته، كأن يذهب فورًا إلى نزار قباني عندما يحتاج إلى قراءة شِعر في علاقات الحب الشرقية بين امرأة ورجل، وذلك بسبب ما تواضعت عليه نمطية التعاطي الإيجابي دائمًا، وحتى حدود الفطرة الجينية، مع ما كرّسته الشخصية الاجتماعية للشاعر الشهير عن نفسها كظاهرة كتابية تجد دائمًا، وبالممارسة، حلولًا لفظية لأحاسيس ذلك القارئ. لا يعني ذلك انتفاء الكفاءة عن شعر قباني لكنه أيضًا يبتعد بنا عن حتمية التسليم المطلق وغير المُبرَّر بأنه نصٌّ أعلى إبداعًا أو – أقلّهُ – يوازي الكثير من النصوص لشعراء غير معروفين، عطفًا على حقيقة أنّ النص يتّزر بثقافة القارئ التي تُنعِشُ حضور كاتبه الشخصي وشكله الاجتماعي.

العراقي «شاذل طاقة»

يستحقُّ الذِّكْر في هذا السياق شاعرٌ عراقي مُجلٌّ جدًا إنما متروك وغير معروف ولا مُتداوَل، اسمه «شاذل طاقة». كان «طاقة» إضافة إلى كونه رجلَ سياسة وناقدًا أكاديميًا مُبرّزًا، شاعرًا مُجدّدًا ذا تجربة ناضجة، وصديقًا حميمًا لبدر شاكر السياب لكنه لم يقاربه في التصنيف الأدبي، فلا يكاد يُذكَرُ اسمه على مستوى رواد القصيدة الحديثة في منتصف القرن الماضي على الرغم مما نشره من قصائد ودواوين. تأخّرَ «طاقة» في الشهرة إعلامًا وانتشارًا، لكنه لم يتأخر بأهميته الفنية عن شعر صديقه السياب، حتى اعترف له الأخير ذات مرة بأنّ بقاءه في الموصل حدَّ من سطوع موهبته وتألقها في العالم العربي. يجب هنا أن نحاول دائمًا درء التعميم ما استطعنا، ذلك أن الكثيرين جمعوا بين الظاهرة المجتمعية وقيمة النص الأدبية، إبداعًا سويًّا يبلغ مداه الأقصى في الكينونة الواعية والحقة للمحتوى النصّي الذي يقدمه لنا كاتب الأدب.
فمحمود درويش لم يكن رمزًا لقضية أساسية مصيرية فحسب، بل علم جمالي في الشِّعر أيضًا، يستلهمُ الواقعية الاشتراكية في أبهى صورها، لكنه في حقيقةِ تمثُّلِهِ في وجدان جمهوره عُدَّ أيضًا واجهةً نضالية تتركّبُ عليها وَعَوِيةُ الرغبة الدفينة إلى التعلق بعلامة مُسجّلة ترتسم فيها سمات البطولة والنضال، وتُنعِشُ رؤية متابعيه إلى قضيتهم المركزية حتى ممّن لم يقرأوا نصوصه بعد. هذا الفهم المُغلَق لشخصية الكاتب الاجتماعية جعل منه كيانًا شعائريًا ولوحة إعلانية تُلصَقُ بها وتُعلَّقُ على مشجبها مجموعة الحِكَم والشعارات التي تخدم جمهورًا ما، في قضيةٍ ما، ليس هو قائلها ولا كاتبها، وهذا مما انتشر كثيرًا وتكَوَّنَ في خلَدِ ووجدان الناس كأقوال الإمام علي صاحب «نهج البلاغة» أو أشعار الإمام الشافعي، كليهما في أحوال المؤمن بين الحياة والموت والدنيا والآخرة ممّا لم يَثبُتْ منه الكثير نَسَبًا إليهما وصِحّة. ومن نافل القول أنّ أغلب تكونات وشهرة بعض هذه الشخصيات الأدبية اجتماعيًا وإعلاميًا جاء في المنطقة الزمنية التي سبقت الثورة الرقمية الهائلة بشاشاتها الذكية صوتًا وصورة، والتي حُرِمَ فيها القارئ العربي من التمتع في تنويع اختياراته الأدبية بأجناسها المختلفة ممّا لو توافر له حينئذٍ لانصرفَ حتمًا إلى الإقلال من تأطير تعلقه بفرادة شخصية واحدة وتعاظُمِ إعجابه بها، إلى التمتع بتجارب شخصيات أخرى متعددة النتاجات والإبداعات.
لكننا نستدرك ما لا بدّ من قوله حول تلَبُّد كرّاسة النقد عن وظيفتها، الذي ولّد كسلًا نقديًا في بحث تجارب الكُتّاب، ونسفَ أهلُهُ فكرة التطور الأدبي، مطمئنًا بخفّة وخجل إلى لعبة الهضم الجماهيري لأمدوحة الفكرة الشائعة التي أهملوا التصدي لها بحثًا واكتشافًا وَعَويًا وكما يجب عن قيمة تلك التجارب باحتفاليات نمطية مزيفة فعلتْ فعلها في تراجع الثقافة المفترضة للقارئ. فالمواجهة يجب ألا تخيف الناقد الجيد كفعل استقراء مُحايد للنص الأصيل، والتفاتٍ أمين عن الصِّيت الذي قد يسبق إحاطته بأدب الكاتب مهما حَسُنَ فألُ هذا الأخير من الشهرة، كما أنّ الظاهرة ليست ثابتًا فيثاغورثيًا بل متحوِّلٌ دائم مَرِن، وقد تمحوها أُخرى مستجدة، إذ لا إجماع تامًّا في تاريخ الأدب العربي على إحداها، في حين أن الفنية الحقَّة للمُنتج الأدبي لا تلغيه صيغة فنية لاحقة ولو التقَتا في الموضوع. لقد كان من فداحة الخطأ الذي توسَّعَ على بعض مُكوّنات المشهد الأدبي الراهن أنْ ترجمَ القارئُ العربي اهتماماته الأدبية المجردة إلى محاباة الصورة الوجاهية للكاتب، الذي يوغل في نرجسيته كلما أدرك ديمومة صورته تلك، ليجد نفسه في الفخ الذي نصبته له الشهرة بصفتها وجهًا آخر للظاهرة الاجتماعية، الصوتية، فجعلتْ منه وجهًا ثقافيًا لا تفسير عِلِّيًّا له يرفعُ من قيمة محسوسات الجمال في النص الأدبي، ما كرّسَ الرؤية المُتهدّجة إلى حقيقة إبداعه ووعيه كقيمة أدبية.

مجلة «العربي»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى