إبستيمولوجيا السرديات

لا يمكننا فهم ما يجري من انشغالات تهم الباحثين في السرديات ما بعد الكلاسيكية، بشكل جيد، دون استيعاب أجود لما تحقق مع السرديات الكلاسيكية، ما دامت العلاقة بينهما تقوم على التطوير والتوسيع والتحوير. وكان لتمييزنا بين اتجاهات «السرديات الكلاسيكية» مدخلا لوضعها في سياق النظريات السردية المعاصرة لها من جهة، وللسيميائيات الحكائية من جهة ثانية. يغيب هذا التمييز لدى كل المشتغلين في السرديات ما بعد الكلاسيكية، وكانت له آثار سلبية في الكثير من النقاشات والسجالات، التي ما تزال مستمرة إلى الآن. لقد أدى عدم التمييز أن صار كل بحث في السرد ينتمي إلى «السرديات» وصارت مظلة لكل من يشتغل بالسرد، وهذا منزلق إبستيمولوجي بيِّن.
حين نتحدث عن العلم (السرديات مثلا) والنظرية والمنهج، فنحن إما ننطلق من مبادئ إبستيمولوجية محددة، أو من الحذلقة الثقافوية. في الحالة الأولى نكون نتقيد بضوابط وإجراءات البحث العلمي، وفي الثانية نطلق العنان للسجال والتسيب والتعميم. ولعل عدم التمييز بين السرديات البنيوية، وغيرها من الاجتهادات السردية السابقة عليها، أو المعاصرة لها، ضرب من ذاك التعميم.
أميز بين فريقين من المنشغلين بالسرديات ما بعد الكلاسيكية على المستوى العالمي. فريق جاء من السرديات، وآخر ذهب إليها. والغلبة للفريق الثاني لأنه هو من ابتدع مصطلح السرديات ما بعد الكلاسيكية. إن من جاء من السرديات ينطلق منها باعتبارها اختصاصا محددا يتميز عن غيره من الدراسات التحليلية للسرد. أما من ذهبوا إليها فقد جاؤوا من اختصاصات متعددة ومختلفة: منها ما هو لساني، أو سيميائي، أو متصل بإحدى النظريات السردية الأمريكية أو الجرمانية، أو من الدراسات الثقافية، أو النسائية، أو المعرفية، أو غيرها من الاختصاصات. وبما أن المرحلة الجديدة (ما بعد البنيوية) مرحلة تداخل الاختصاصات وتعددها، كان لزاما طرح السؤال المعرفي الجوهري وهو: كيف يتحقق التداخل والتعدد بين الاختصاصات؟ وكيف نشتغل به على مستوى النظري والتطبيقي، ومعنى ذلك أن من اشتغل بالسرديات الكلاسيكية كيف يمكنه الانتقال إلى ما يتعدى الحدود التي وقفت عليها السرديات إبان تشكلها؟ ومن جاء إلى السرديات من اختصاصات أخرى أنى له أن يلائم بين اختصاصه واختصاص آخر صار يشتغل به؟ دون الإجابة عن مثل هذه الأسئلة لا يمكننا ممارسة التطوير أو التوسيع أو التغيير بالصورة المناسبة.
تتعلق هذه الأسئلة بالفضاءات التي يمكننا أن نتحدث فيها عن اختصاصات. أما بالنسبة لفضائنا العربي، حيث الإيمان بالعلم وبالاختصاص منعدم، فطرح مثل هذه الأسئلة لاغ لانعدام شروط إمكانية الجواب عنه. فالذي جاء من النقد الأدبي، ومن مناهج متعددة، وصار يشتغل بالنقد السردي، لا يمكنه ادعاء تطوير السرديات الكلاسيكية. أنى له ادعاء توسيع السرديات (باعتبارها اختصاصا) ولا يتحدد عمله ضمن هذا الاختصاص؟ وأنى له ادعاء التطوير وتجاوز السرديات الشكلية الضيقة، وما تشاؤون من اتهامات، بالاستناد إلى اللسانيات التلفظية أو العلوم المعرفية، وهو لا يمتلك سوى أمشاج من المعلومات الملفقة حول هذه الاختصاصات؟ وأنى لمن يدعي الاستفادة من الدراسات الثقافية أن يقيم علاقة بين اختصاص محدد هو السرديات، وهذه الدراسات التي هي أصلا قائمة على تعدد الاختصاصات؟
سأضرب مثالين من الفريقين في الدراسات السردية الغربية، كل الباحثين في السرديات ما بعد الكلاسيكية يدرجون ميك بال ضمن السرديات الكلاسيكية، وهم على حق، لقد جاءت من السرديات، وكانت من بين من ناقش جنيت، وعملت على تطويرها من الداخل. ولا أدل على ذلك من انطلاقها من مصطلح التبئير الذي وضعه جيرار جنيت، وقامت بتطويره كما بينتُ ذلك في تحليل الخطاب الروائي (1989). وحتى عندما استفادت من الدراسات الثقافية سلبت عنها حمولاتها الخاصة، ووجهتها لتصبح «التحليل الثقافي» المبني على ما راكمته في تجربتها السردية منذ كتابها «السرديات: نظرية التحليل السردي» في طبعاته المختلفة (1985/ 1997/ 2008/ 2017) وانتهاء بكتابها «السرديات في التطبيق» (2021) أو ما أسميه «السرديات التطبيقية». وما قامت به في تعاملها مع الدراسات الثقافية، مارسته وهي تنفتح على الدراسات النسائية والثقافة الشعبية وغيرها. وهذا هو التطوير الذي أقصد، وهو ما يندرج في تصوري في نطاق «السرديات ما بعد الكلاسيكية» بحق على خلاف الكثير من الدراسات التي أدخلها في نطاق الدراسات السردية ما بعد الكلاسيكية.
في المثال الثاني أقدم ألان راباتيل القادم من اللسانيات التلفظية إلى السرديات، الذي اهتم أكثر بـ»وجهة النظر» وهو المصطلح الذي وظف جنيت بدله مصطلح التبئير. يرى راباتيل أن مصطلح التبئير غير مناسب، وينتقده بشدة من منظوره اللساني، ويسترجع مصطلح وجهة النظر، ويقدم أطروحة ضخمة ( 580 صفحة) سنة 1996 تحت عنوان: «مقاربة سيميائية ـ لسانية لمصطلح وجهة النظر». وفي كل دراساته اللاحقة إلى الآن وهو يطور «وجهة النظر» من خلال تصوره اللساني التلفظي. إن نقد راباتيل خارجي ولا علاقة له بالسرديات، وإن ادعاها. يمكننا اعتبار عمله داخلا في «لسانيات تلفظية سردية» وندرجه في نطاق اتجاهات «الدراسات السردية ما بعد الكلاسيكية».

«القدس العربي»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى