بيت بألف نافذة

في المطارات، لا سيما في الليالي الباردة أو الصباحات الغائمة، بوسعك أن تدرك من وجوه الذين يجلسون في انتظار إقلاع طائرة، أو يمضون إليها مسرعين، من فيهم يسعى وراء معرفة، وذلك الذي يهرب من واقع مرير إلى آخر ربما يكون أشد مرارة، دون أن يعلم، وقد تدرك أيضا أولئك الذين يمشون في ثقة نحو أعمال تنتظرهم في بلاد هناك، وغيرهم ممن يسافرون إلى فرص غير سانحة، لكن الأمل يحدوهم في اقتناصها.
وجوه كثيرة تتزاحم أمام عين من يبحث عن اختلاف، لكنه حين يلتقط واحدًا منها، ويمعن النظر فيه، فيجد الشغف يسكن المقلتين، سيفهم على الفور أن صاحبهما ذاهب ليعرف، كي يجيب على أسئلة كثيرة أطلقت في دمه جمرًا، ولم تجعله يستقر على حال، حتى إنه يتقافز فوق رخام المطار البارد كأن النار تحته، يريد للساعات أن تمضي كي تأخذه هذه العلبة المارقة في الهواء إلى حيث يريد.
أنا واحد من هؤلاء، الذين إن تعددت أسباب السفر لديهم، فإن لهم قصدًا آخر، يشغلهم منذ أن تصلهم تأشيرة الدخول وحتى يسمعون صوت المضيفة وهي تقول “اقتربنا من الهبوط إلى مطار كذا”. لا يشغلهم أيّ مطار هو، فهنا بشر، جاؤوا ليعرفوا صفاتهم وسماتهم، كي يضاهوا ما يلقونه بالذي استقر في رؤوسهم عبر سنوات من الثرثرة التي تجري على الألسن، أو تتهادى على الورق، كلمات في سطور.
وما إن تحط قدمايَ في المطار الغريب حتى أشعر بألفة عجيبة، وأقول لنفسي دومًا:
– إنها أرض الله التي أورثها للناس.
أيّ ناس، في أيّ زمان، وأيّ مكان، فكلنا عباده، وإن اختلف كل شيء فينا ومنا وبيننا ولنا. أترك نفسي للتجربة التي تعلمني أن ما دار في خلدي لم يكن سوى الحقيقة، أو هو القريب منها، بعيدًا عن ريح السموم التي هبت على عقول ونفوس مغلقة فجعلتها تدرك وهمًا أن الناس في اختلاف، هناك من يغذيه حتى يتسع ليصبح شقاقًا فصراعًا ضاريًا، وقلة تدرك أن هذا تنوع خلاق، يثري الحياة.
أتسلم حقائبي التي تدور أمام عيون الواقفين، وتتشابه مع غيرها، فيكون عليَّ الانتباه، حتى أصل إليها، وأوقن أنها لي وليست غيرها. أرفعها فوق تلك العجلات المصمتة التي لم تخلق هنا سوى لنقل حقائبي من الدائرة الصماء إلى عربة تعرفني أكثر من أيّ شيء آخر في هذه المدينة الجديدة على عيني ونفسي.
أتطلع إلى أول وجه أقابله، ويحدوني أمل في أن أجد الخريطة التي أقصدها مرسومة على جبينه، وبها أهتدى، بعد أن أعرفها وتعرفني، وحين أنظر إليها مبتهجًا، أسمعها تقول لي:
– أنت لا تزال في أول الطريق.
في كل رحلة أجد في انتظاري وجهًا مختلفًا، فمن هذا الذي يقصدني فردًا، إلى ذلك الذي قيل له إنه يجب أن يكون في استقبال مجموعة من الناس، أنا واحد منهم، وعليه أن ينقلهم من المطار إلى الفندق.
تختلف الرحلتان بالقطع، فسائق لي وحدي، يخصني ببعض مفاتيح المدينة، ليس كسائق للجميع، فالأول أسأله وأنصت إلى إجاباته، والثاني أنظر إليه في صمت، وقد أتحدث إلى من يجلس جانبي بما أعرفه ويعرفه، ولا يمتّ بصلة غالبًا إلى ما أنا ذاهب إليه.
أحيانًا أرى أن الأفضل هو ألا أتحدث مع أحد عن شيء، بل أترك عينيَّ تطالعان الطريق، ولذا أحبذ أن تكون جلستي في أول مقعد بالسيارة أو الحافلة حتى يتهادى لي الطريق كله، يساره ويمينه وأمامه، أما خلفه فقد رأيته حين فات وأنا فيه أمضى، وعليَّ ألا أشغل نفسي طويلًا بالذي ذهب، لأن الطريق يتجدد دون انقطاع.
أعيد ترتيب أوراق الرحلة من جديد وأنا أمضي في الشارع النابت من المطار أو الذاهب إليه، نحو أول مكان لي في مدينة جديدة عليَّ، ما يهز قلبي فيها ليست فقط بناياتها إن كانت شاهقة متبلدة، أو خفيضة حافلة بفن لا تخطئه عين، ولا كل ما يصادفني من أنواع السيارات وواجهات المحال، إنما أكثر وجوه البشر، التي أنجذب إليها، لأن أصحابها قد صنعوا كل ما حولي.
الوجوه هذه لا يمكن التطلع إليها في خفة مثل البنايات المتشابهة، إنما يجب على أيّ ناظر إليها أن يتأملها جيدًا، ففي تجاعيدها الهينة التي لا تكاد ترى، أو تلك المحفورة كفجاج الترع والجسور في قلب أرض مطروحة منبسطة، يكون كل شيء، أو المنحوتة في جبال شمّاء، آثار المكان، وغلبة الزمان، ووجع التجربة. فكل تجربة هي وجع، مهما اعتقد متعجلون أنها مريحة، أو ضاجة بفرح عابر.
إنها وجوه البشر، ففوق ملامحها كل الخرائط، التي لا يمكن لمرتحل هاو أو متمرس أن يتجنبها، إذا أراد تحصيل معرفة حقيقية، فالعلم ليس فقط في بطون الكتب، إنما أيضًا يقيم فوق جبين الناس وفي عيونهم، ويتهادى في سكناتهم وحركاتهم، الموزعة على تجارب متعددة، يحملونها فوق ظهورهم.
لهذا فالمسافر الواعي لا تشغله المتعة العابرة، ولا يقيم حوله وهو هناك في غربته الطارئة أو المؤقتة شرنقة من الخوف والتردد والتبلد والاستغناء الزائف، إنما يجدها فرصة للتأمل والفهم وهو يعاين الأماكن التي تمضي فيها حياة من سافر إليهم، ليلتقط في ذكاء تأثيرها عليهم.
ومن يفعل هذا سيكتشف دون عناء أن هموم الناس متشابهة، بغض النظر عن التفاوت في الفقر والغنى، وفي القهر والحرية، وفي الألوان والأعراق. فالإنسان هو الإنسان، أسمر كان أم أبيض أو أصفر، لديه قضية تشغله وتؤرقه أو يعيش لامباليًا هائمًا على وجهه لا يلوي على شيء، فكل هذا قد يصنع ألوانًا من اختلاف ليس من بينها بالقطع ما يمحو جوهر النفس الإنسانية وطبائعها.
إن هذا ما يلفت نظري دومًا في كل مكان سافرت إليه، أنظر إلى الناس مليًّا، وتشتعل الأسئلة في رأسي، عمّا يفعله الإنسان من أجل تحسين شروط الحياة، وكيف أن أيّ فرد سيجد نفسه أقرب إلى الآخرين من حبل الوريد إن تجرد من كل الدعايات والشكايات والتدابير المغرضة، والأهواء النفسية، والمنافع الاقتصادية، والمصالح السياسية، وكل ما يقيم بين الناس حواجز مانعة، وسدودًا صماء، تجعل كلًا منهم يعطي ظهره للآخر، ويصم عنه أذنيه، ويغمض عينيه كي لا يراه.
السفر ليس نزهة مشتاق فحسب، بل أيضا وسيلة للوقوف على أشواق الناس في أيّ مكان وزمان إلى كل ما يشدهم إلى الأمام، مهما كانوا عليه من تمكّن أو رفاه. والسفر طريق سالك نكتشف ونحن نمضي فيه، أننا جزء من هذا الكوكب، وكل واحد فينا هو من الناس وبهم، وعليه ألا ينسى هذا أبدا. إنه شعور لا يمكن أن يحس به الإنسان وهو قابع في مكانه لا يبرحه، مستسلم لكل ما ينفّره من آخرين هناك، يسمع عنهم ولا يسمع منهم، فتتوالى في مخيلته صور كريهة لهم، وينصت إلى كل مغرض ينعتهم بالحقدة المسعورين الطامعين المتبلدين، الذين لا يشغلهم غير ما يملأ بطونهم وجيوبهم.
يكاد من يستسلم لهذه الصورة المصطنعة أن يصرخ، في بدء أول سفر له إلى الخارج يرى فيه أولئك الذين ظن بهم السوء ويقول “إنهم يضحكون مثلنا، ويبكون كما نبكي”، وهي عبارة على بساطتها موجعة، لأنها تصور “الآخر” وكأنه صنف غريب من الناس، وربما ليس من بني الإنسان في شيء.
ورغم تدفق الصور في عالم يعيش في ثورة اتصالات حوّلته إلى غرفة صغيرة فإن الجالس في مكانه، ومهما تسارعت الصور أمام عينيه وانهمرت فوق رأسه، لا يمكنه أن يصل إلى المعاني التي يتحصل عليها مسافر ذو بصيرة. فمن رأى ليس كمن سمع، ومن خالط الناس وعايشهم ليس كالبعيد أو المبتعد عنهم.
قديمًا عدد الإمام الشافعي خمس فوائد للسفر وهي: تفريج همٍّ، واكتساب معيشة، وعلم، وآداب، وصحبة ماجد”. لكن هذه الفوائد زادت الآن في نظر من يقدرون ما للسفر من عطايا لصاحبه. ولعل الفائدة الأكبر هي فهم الآخرين، وإدراك التعايش والمسامحة والتفاهم، ليس بوصفهما تفضلًا إنما ضرورة، لأن الناس حقًا لآدم، ومستقبلهم مشترك، وعليهم أن يتعاونوا دومًا على البر والتقوى.
لا يمكن في عصر الصورة وزمن المواطن الصحفي والعالم الذي صار حجرة صغيرة أن يأتي إليك من يصف المشاهد التي يراها، متكئا على أن الأغلبية تتوسل بالكلمة المكتوبة كي ترى، فالصور صارت على قارعة الطريق، والوصف لم يعد له شأن كبير في عصر الجماهير الغفيرة، وأيّ شيء عن أولئك الذين يقطنون وراء البحار لم يعد بوسعه أن يلفت انتباه الذين رأوا كل شيء في خرائط “جوجل” ومعلوماتها، وأفلام قصيرة مصورة من هنا وهناك، ومعلومات وصور وأفلام وشروح لا تتوقف على مواقع التواصل الاجتماعي على اختلاف أنواعها، تجعل السؤال يكبر في عين كل لبيب: ما الذي تبقّى لوصفه بعد أن أصبح في وسع كل أحد أن يجوب المدن كلها وهو جالس في مكانه. عليه فقط أن يحرك إصبعه فوق أزرة هاتفه الجوال أو حاسوبه النقال، أو حتى يجلس ساعات قليلة أمام قنوات متلفزة مخصصة كي يكون بوسعه تعرية العالم أو شرحه.
لم يعد يمكننا نحن الذين نريد أن نقرّب العالم من آذان الناس وعيونهم، سوى اختيار زاوية، قد تكون ضيقة، أو يعتقد المتعجلون أنها هامشية عابرة، لكنها في كل الأحوال تضيف الكثير إلى الصور التي تترى بلا تعليق أو تحليل محايد، حتى صارت على قارعات الطرق، مبتذلة، لا يتوقف عندها أحد، فالكل يظن أنها صارت سقط متاع.
لقد قال الأوائل كل شيء في الوصف، وحتى الصور المتجددة لم تعد في حاجة إلى قلم، إنما عدسة لاقطة، لأيّ أحد، ليس بالضرورة مصورا محترفا، كي ينقل من أيّ مكان في أقصى الأرض، لأيّ مكان في أدناه، كل شيء بلا رتوش، سواء عبر مئات الصور المتلاحقة التي يتم التقاطها في ثوان معدودات، أو تسجيل مصور يعدّ على مهل، وبوسع من يعدّه في احتراف واقتدار أن ينقل الكثير، مما لا يجعل لأيّ قلم مكانا في الوصف أو التعبير.
من أجل هذا آليت على نفسي هنا ألا أصف كل ما رأيته من مشاهد في سفري، فمهما بلغ وصفي من دقة واقتدار، فلن يكون على قدر ما هو ماثل في الطبيعة. فأيّ لفظ أو قول أو كلام يقيد المعنى مهما كانت بلاغته، وليس بوسعه أن يهزم الصور والأفلام المتاحة بلا انقطاع على شبكات التواصل الاجتماعي لكل من أراد أن يعرف.
الشيء الأهم الذي يعنيني طوال سفري هو: كيف يتعايش الناس رغم اختلاف القيم والأفهام ودرجات الوعي والمصالح والغايات الفردية؟ وكيف يتجاور القديم مع الجديد في المدن، بل ويتعانقان؟ ليثبتا أن ما مضي لم يذهب كله، وأن بعضه مفيد في حياتنا المعاصرة، لأنه ساكن في الجذور، ولديه ما يمد به النبت مهما ارتفع في وجه الريح، وتشعبت فروعه، وثقلت ثماره.
قد يكون هذا هو المعنى العميق في السفر، بعيدًا عن التنزه وتفريج الهم والتقاط الرزق، فسوء الفهم الذي ظل قائما لقرون طويلة بين البشر، كان مرده تلك الحواجز العريضة التي حالت دون اتصالهم في أزمنة زادت فيها المسافات، واتسعت المفازات، وشمخت الجبال بأنوفها في وجه الناس، وهاجت البحار والمحيطات، فهابوها.
اليوم ضاقت الغربة بيننا، بعد أن صارت الطائرات والسفن أكثر سرعة، وتواصل الكل في عالم افتراضي على شبكة الإنترنت، وهذه الثورة العارمة في المواصلات والاتصالات جعلت سؤال التفاهم والتعايش هو الأكثر طرحًا، في عالم طالما ظهر فيه حالمون بتوقف شلالات الدم، ويصل فيه الإنفاق على السلاح إلى درجة الصفر.
ولأني امتلأت في زمن مبكر بأفكار الإسلام عن الرحمة والتعارف، وتصورات غاندي عن اللاعنف، ونداء كانط بالسلام الدائم، والتقارب الكبير بل التطابق أحيانا بين الموروث الشعبي للأمم من أساطير وأمثلة وحكم، فقد كنت معنيًا في ذهابي إلى البلاد بالبحث عمّا يجمع بين الناس، في الأفكار والطقوس والملامح والتحايل على العيش، والكفاح في سبيل تحسين شروط الحياة.
وزكّى هذا لديَّ إيماني بأن الاختلاف سنة إنسانية، بل كونية، وأنه حتى المعارضة تكون في جوهرها امتثالًا لمنطق الكون وطبيعة الحياة وقوانينها، فالانفراد المطلق، والمشيئة التي لا راد لها ولا مراجعة، حالة إلهية، أما البشر فيجب أن يكونوا في تنوع وتعدد حتى يستقيم العيش. لهذا اعتبرت العالم بأسره مشمولًا بثقافة واحدة عريضة وعميقة، يكمل بعضها بعضا، تصب فيها رؤى ووجهات فرعية، تتأهب طوال الوقت للتدفق سريعًا، أو بطيئًا، نحو المجري العميق للثقافة الأصلية.
لكن ما لا أنكره، أنني خلال سفري لم يقتصر نظري إلي وجوه الناس، المختلفة بين أسمر وأبيض وأسود وأحمر وأصفر، وإن كانت قد أخذت القسط الوافر من اهتمامي، إنما امتد إلى العمران، فهو أيضا ينطق بالتعايش، بين بنايات قديمة مرت على تشييدها قرون، وأخرى فرغ البناؤون منها للتو، وثالثة تقع في منتصف أزمنة المدن. وقد تتوزع من الشوارع الواسعة حارات ضيقة، وقد يقف في بعض المدن والبلدات صف من البنايات الشاهقة على الجانبين في شارع عريض، بينما تنيخ خلفهما صفوف أو أشكال متعرجة أو مبعثرة من البنايات الخفيضة، التي يقطنها فقراء.
لهذا لا يجب على أيّ زائر لمدينة، لو أراد معرفة الكثير عنها، أن يقصر بقاءه فيها على أحيائها الفخيمة، أو فنادقها الفارهة، فيقيم أيامًا، ويخرج منها إلى المطار، ثم يسجل كذبًا في مدونته أو تاريخ سفره أنه قد زارها. فالزيارة الحقيقية، تبدأ من قلب المدينة، حيث البقعة الأولى التي بدأت، وتفرع منها كل شيء، فتوالت الأزمنة، وتراكمت الجهود، وتعددت أذواق المعماريين، فتنوعت أشكال البنايات، ومساحات الشوارع، طولًا وعرضًا.
هكذا يكون التعايش والتفاهم الذي نبحث عنه، ليس فقط في التصورات والاعتقادات والأفكار ووجوه الناس في قارات الأرض، إنما أيضًا ذلك الذي يحل في العمران، فهو ليس جمادات بلا معنى، إنما تعبير عن ثقافة وأذواق وتاريخ طويل من الكفاح والسعي إلى التجدد والتغيير.
إن هذه هي الفكرة الأساسية لهذا الكتاب، الذي سعيت فيه إلى أن يكون طرفا خاصا من أدب الرحلة، بعد أن صار كل شيء عن البلدان متاحًا، حتى لمن لم يفارق مكانه طوال عمره، إنه نظر في الوجوه والطقوس والأحوال ودخائل النفوس وتعدد الرؤى وتواشجها.
كنت أبحث في سفري عن المؤتلف بين الناس، وعن الاختلاف الذي يصنع التنوع الخلاق، وعن كل ما يجذب الإنسان بعيدا عن الغابة، التي يعمل مغرضون ومهوسون على أن نظل هائمين في أدغالها بحثا عن الفرائس.

المطر الساطع في بلاد الشروق المبهر

لم تخطئ عيناي أبداً، أنني ذاهب إلى أكبر دولة مسلمة على وجه الأرض، حين اقتحمتهما أجساد ضامرة لنساء ملفوفات في ملابس وسيعة فضفاضة تملأ صالة الانتظار في مطار الدوحة، لكن حين حطت الطائرة في مطار جاكارتا وانطلقت الحافلة في شوارعها الوسيعة النظيفة التي تمر بها سيارات يابانية من أنواع مختلفة، رأيت عالماً آخر متنوعاً، فيه رجال قصار في الغالب الأعم ونساء سافرات ومحجبات، وبيوت ذات أسطح مائلة تستقبل مطرًا طوال السنة تقريبًا، وبنايات شاهقة، تحتضن متاجر دشنتها العولمة، لتجذب الطبقتين العليا والوسطى، وتفتح بابًا للاغتراب في بلد يتسم أهله بالبشاشة والسماحة والسكينة والإقبال المفرط على الحياة.
قبل هذا كان عليَّ أن أتقلب حيرة بين فتح عينيَّ على اتساعهما أو غلقهما تمامًا، بينما الطائرة قد غادرت أجواء الهند وسيرلانكا وتقترب من ماليزيا، وبعدها أندونيسيا التي نقصدها، فالشمس تكاد تسكن مقلتيَّ، لتقول لي في بساطة:
“أهلا بك في بلاد الشروق المبهر”.
كان المطار بسيطًا، مدرجه زاهي الخضرة، حيث حشائش مشذبة، تجعلها الأمطار المنهمرة في أغلب الأوقات تهيج وتتوحش وتزحف على الممرات التي تقلع منها الطائرات وتهبط عليها، بينما الشمس لا تلبث أن تعود سريعة إلى سطوعها، لكن العمال لها بالمرصاد، حتى بدت كأنها أرضية ملعب كرة قدم، إلا الأطراف البعيدة، التي ظلت على حالها، لتدل عما فعله هؤلاء في سبيل أن تبقى أرضية المطار صالحة لاستقبال الطائرات.
حصلت مع رفاقي في الرحلة على تأشيرة دخول البلد، وذهبنا إلى صرافة لندفع بعض ما لدينا من دولارات ونحصل على العملة المحلية وهي الروبية. كانت المئة دولار تقترب من المليون روبية، فأخذنا نتندر عن أننا قد صرنا مليونيرات بأندونيسيا في لحظات، لكن كل هذا الوهم قد تبخر حين وجدت نفسي بحاجة إلى دفع ستين ألف روبية ثمنًا لوجبة مكوّنة من ربع دجاجة وبعض الأرز، لم أستطع تناولها لأنني اكتشفت فور وضع أول قضمة في فمي أن لحم الدجاجة، المحمّرة ذات المنظر الشهي، غارقة في عسل النحل، ثم أدركنا جميعًا في اليوم الثاني على الغداء، أن أهل أندونيسيا يأكلون اللحوم بالسكر والعسل، ويستسيغونها على هذا النحو، ويلتهمونها في نهم شديد.
في السوق نفسها التي اصطدمت فيها بالدجاج الحلو بحثت عن نارجيلة، فوجدتها في مكان معزول، يقف فيه شاب لا يعرف أي لغة غير المحلية، حدثته بالإنجليزية فلم يفهمني، ولم يفهم العربية أيضًا، لكن لغة الإشارة، التي تذيب الفوارق والحدود والفواصل، كانت هي الحل، فقربت بيننا. طالعت بعيني أنواعًا كثيرة من المعسل، لا أعرفها. دققت النظر في المكتوب على كل باكو ملون منها، فأدركت أني أراها للمرة الأولى. سألته عن “معسل سلوم”، فهز رأسه، ومد يده خلف رصات من أصناف أجهلها، وأخرج باكو واحد.
تهللت أساريري فقد كان وقت طويل قد مر عليَّ دون تدخين. بدأت أحاول إفهامه أنني أريد تدخين حجر واحد، لكنه فهم خطأً من لغة إشارتي أنني أريد الباكو كله، فراح يهز رأسه رفضًا، وشعرت أني لا أستطيع أن أجعله يفهم ما أريد، فأشرت إلى شاب مهندم يمر من أمامي، فجاء إليَّ، فسألته إن كان يتحدث الإنجليزية، فقال: نعم، فأفهمته ما أريد، ونقل هو باللغة المحلية ما قلته لصاحب المقهى، فاتسعت ابتسامته حتى كادت تبتلع وجهه، وأتى إليَّ بما أريد.
لا يدخن الأندونيسيون النراجيل بطريقتنا، إنما يضعون المعسل في مكان، تعلوه دائرة حديدية مجوفة بها فتحات في قعرها، توضع فيها النار، فترسل لهيبها القوي إلى المعسل، فتسخنه، وحين يُسحب يندفع دخانه إلى ماء النرجيلة فخرطومها إلى فم شاربها. طلبت من صاحب المقهى أن يضع لي النار فوق المعسل مباشرة، كما نفعل في مصر، وفي كل بلاد العرب، فتعجب من طلبي، لكنه استجاب.
كانت جلستي على رصيف المقهى الذي يشرف على ممر وسيع بالسوق، يمضي فيه الناس متزاحمين إلى مختلف غاياتهم. كان أيّ منهم يلمحني، يتوقف ناظرًا إليَّ في استغراب، ويبتسم. بعضهم كان يقهقه من هذا الذي يضع النار على المعسل، ولا يرى أي مشكلة في هذا. كانوا ينظرون إلى سحنتي فيدركون أني رجل غريب، فيهزون رؤوسهم متقبلين ما أفعله في رضا.
في الحقيقة لم تكن هناك غربة شديدة بيني وبينهم، ففضلًا عن الإنسانية التي تجمع الكل، والدين الذي أدين به ويدينون، فالتجربة السياسية تقرب بيننا. فمع أندونيسيا تكون أمام تجربة شبيهة بما عركته مصر في الستين سنة الأخيرة، وليس بالطبع في آلاف السنين التي دب خلالها الآدميون على ضفاف النيل، سوكارنو يماثل عبد الناصر، حيث الاستقلال والبناء والعدل الاجتماعي والأحلام العريضة والاستبداد السافر والمقنع، وسوهارتو يضاهي مبارك حيث التبعية والعجز والفساد والطغيان والترهل، الأول قامت ضده تظاهرات تطالب بالإصلاح في عام 1998 فأسقطته وبقي نظامه، لكن إصرار الناس على تحصيل الأفضل في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية حول الثمار ثورة كاملة، لاسيما بعد الخروج التدريجي للجيش من الحكم، أما الثاني فقامت ضده ثورة عظيمة عام 2011 فسقط أيضاً وبقي نظامه يلتف عليها ويسعى في إجهاضها، لكن الحكم على النتائج النهائية والكلية ليس الآن بأيّ حال من الأحوال.
ذهبت إلى جاكارتا للمشاركة في مؤتمر عن “الإسلام الدولة والسياسات” بدعوة من “معهد السلام والديمقراطية” التابع لجامعة أوديانا، فسمعت من أساتذة العلوم الإنسانية هناك شهادات وإفادات مبهرة عن “التمازج بين الإسلام والثقافة التقليدية”، وعن الدولة “اللا علمانية واللا دينية التي تعطي الدين وزنه في الحياة وليس في السلطة”، التي يثبت وجودها على سطح الأرض في حد ذاته كذب مفهوم “الدولة الحارسة للدين”، و“قوة الدين في حد ذاته كي يحرس نفسه”، إذ أن الإسلام لم يدخل إلى إندونيسيا بالفتوحات إنما جاء في ركاب التجارة والتسامح وقوة الحجة وصفاء العقيدة، فدافع عن نفسه من دون وصاية من ملك أو سلطان أو أمير.
هناك تجد التدين ظاهرًا في سلوك الناس وليس في أزيائهم وادعاءاتهم على رغم أن الشعب الإندونيسي لا يعتبر الإسلام أساساً لقيام الدولة، وفي الوقت ذاته لا يجد غضاضة في «تطبيق بعض أقاليم الدولة للقوانين الإسلامية»، لكن في شكل عصري بعيداً من أضابير الكتب القديمة وخلافات فقهاء الزمن الغابر، وفي صيغة تتعانق فيها الثقافات المحلية مع مقتضيات الشرع في انصهار عجيب، وفي طريقة تحول فيها الدين إلى طريق لحل المشكلات لا وسيلة لخلقها.
الإسلام ذائب هنا في نفوس الناس من دون طلاءات ولا زيف ولا تمسك بالمظاهر الخادعة والقشور الهشة، وصوت أذان الفجر في إندونيسيا يبعث على الخشوع والسكينة، عذوبة الصوت بالنغمة المصرية الأصيلة بنت مدرسة الأزهر العظيمة التي وضعت بصمتها هناك في قلب البحار البعيدة.
وفي إندونيسيا يتجاوز أعضاء جمعية “نهضة العلماء” الإسلامية 45 مليون عضو و “المحمدية” نحو 35 مليون عضو، لكنهما لا تلزمان أتباعهما بالتصويت في الانتخابات لمصلحة أحد بعينه، لأنهما تؤمنان بحرية الفرد، ولا تجبرانه وفق مبدأ “السمع والطاعة” الذي يسلبه إرادته وقراره، وينصرف جهد هاتين الجماعتين على تحقيق الامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي والتماسك الأسري والنفع العام أو العمل الخيري.
وتسعى الدولة التي تتكون من 13 ألف جزيرة عائمة في المحيط الهادي، إلى جعل تنوعها مصدراً للقوة وليس للضعف والتفكك، لذا كان عليها أن تبدع صيغة تحكم علاقة مستقرة بين سكانها الذين ينتمون إلى 300 عرق ويتحدثون 250 لغة ويدينون بأديان عدة أولها الإسلام، ويدين به 86.1 في المئة، ثم البروتستانت 5.7 في المئة، والكاثوليك 3 في المئة، و1.7 في المئة، و3.4 في المئة يعتنقون معتقدات أخرى. ومن أجل المحافظة على وحدتها صاغ الرئيس سوكارنو عام 1945، وعقب انتهاء الاحتلال الياباني مباشرة، مبادئ خمسة لتحكم دستور الدولة يسمى “البانكسيلا” التي تعنى بالعربية «كلمة سواء» جاءت على النحو الآتي:
– الإيمان بإله واحد.
– إنسانية عادلة ومتحضرة.
– وحدة إندونيسيا.
– الديمقراطية تقودها الحكمة الداخلية في توحد ناشئ من المداولات بين الممثلين.
– العدالة الاجتماعية لجميع أفراد الشعب الإندونيسي.

حين زرت جاكرتا كانت الحياة السياسية الإندونيسية لا تعرف أي احتكار، فالانتخابات التي أجريت قبل ذهابي بثلاث سنوات، توزعت فيها حظوظ الفائزين في شكل فيه مقدار كبير من التوازن، فالحزب الديمقراطي لم يحصل سوى على 20.9 في المئة، وبعده جاء حزب جولكار بـ14.5 في المئة، وهكذا.
وجرت هذه الانتخابات في سلاسة تامة، إذ أن عدد المقترعين في اللجنة الواحدة لا يزيد على 300 شخص، وأشرف عليها سكان كل منطقة بأنفسهم، في شفافية تامة، وكان يتوجب على المرشحين للرئاسة أن يمروا باختبارات طبية دقيقة، بما فيها اختبار الذكاء، بعد أن ابتليت البلاد برئيسة غير متعلمة ورئيس شبه ضرير عقب سقوط سوهارتو.
لقد تحدث الإمام محمد عبده حين ذهب إلى أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر عن أنه وجد إسلاماً بغير مسلمين، وفي إندونيسيا هناك إسلام بمسلمين، ينصرف إلى الجوهر ويتفاعل مع مقتضيات العصر، فلا تجد الشوارع مزدحمة بأصحاب اللحى ومرتديات النقاب، بل تجدها عامرة بالسلوك القويم والرضا والاعتزاز بالدين والرغبة المتجددة في تحسين شروط الحياة.
كنت قبل أن أزور هذا البلد الأخضر الأزرق، حيث الأرخبيل المطير، أضرب مثلا بتجربة أندونيسيا مع الإسلام، فأقول: أكبر دولة يقطنها مسلمون في العالم لم يدخلها الإسلام بحد السيف. وأضيف: الإمبراطورية الإسلامية في أيام الأمويين والعباسيين والعثمانيين اتسعت عنوة، وتحت سنابك الخيل، لكن الإسلام نفسه لم يكن في كل الأحوال مربوطا بهذه النزعة، وخير دليل على هذا أندونيسيا. وبذا كان هذا البلد الذي أدخله التجار اليمنيون، بورعهم وأمانتهم، في رحاب جغرافية الإسلام الممتدة من غانا إلى فرغانة، حاضرا تماما في سجالاتنا، التي لا تتوقف، حتى أننا أتينا على ذكر هذا خلال المؤتمر، رغم أن سامعينا من أهل أندونيسيا ليسوا بحاجة إلى مثل هذا الكلام.
بعيدا عن المؤتمر، والكلام المباشر في السياسية وعنها، أخذنا منظمو المؤتمر في جولة بمعالم المدينة، ومنها حديقة واسعة بها قصر سوكارنو، الذي يبدو على جماله غاية في البساطة، تستريح لردهاته الغارقة في نور الشمس، وأسقفه الهادئة، وجدرانه البيضاء الوديعة، ثم حجراته الواسعة. إحدى هذه الحجرات كان عليها سرير خفيض، مفروشة فوقه ملاءة بيضاء، وواحدة مثلها تغطي وسادة لينة، ينسكب عليها نور ساطع، يتدفق من نافذة ذات ألواح خشبية.
نظر المرشد السياحي إلى وجوهنا وقال:
– على هذا السرير نام الرئيس جمال عبدالناصر.
وتطلعنا إلى عينيه متعجبين، فواصل:
– عبد الناصر زار أندونيسيا عدة مرات، وكان إن أراد المبيت قضى ليلته في هذه الغرفة، التي بقيت على حالها، لا يدخلها أحد، تكريمًا له. وهو ما يجري أيضا بالنسبة إلى غرفة أقام بها ناصر في فندق “سافوي” القريب من المكان الذي شهد مؤتمر “باندونج” لعدم الانحياز عام 1955. الغرفة لا تزال تحتفظ باسم ناصر، بل صارت متحفًا صغيرًا له، يحوي بعض أدواته الشخصية، وصورًا تم التقاطها له أثناء إقامته بالفندق، وفي أروقة المؤتمر.
تذكرت في هذه اللحظة العبارة المتفائلة التي اختتم بها سوكارنو مؤتمر باندونج “إذا اتحد أبوالهول المصري، والفيل الهندي، وطائر الجارودا الإندونيسي، سينعم العالم بالسلام”، وأرسلت بصري يجول في كل ما أتيح له أن يصل إليه من الحديقة حين وقفنا على سلالم القصر نلتقط صورة جماعية. كان أمامنا مصور بارع، خفيف الظل، أراد أن يجعلنا جميعًا نبتسم وننظر إليه، فوقف قبالتنا، وفعل حركات تجعل الحجر نفسه يتقافز ضحكًا، فانطلقنا في قهقهة، فصبر برهة حتى هدأ انفعالنا فصار ابتسامات عذبة، وعيوننا مصوبة نحو عدسته، فالتقط صورًا عديدة.
حين انتهت الجولة كان علينا أن نذهب إلى الفندق لنستريح قليلًا، وبعدها نتوجه إلى “مول” يقع جانبه للتسوق، وتناول الغداء. تركت “المول” و”الفندق” وعبرت شارعاً واحداً إلى الأحياء الفقيرة جداً في جاكارتا، رأيت فقراء بسطاء، لكنهم يدبون في حواري نظيفة مرصوفة وبها شجر خفيف يملأ العيون.
اقتربت من شباب واقفين عند مدخل حارة يثرثرون، وعرفتهم بنفسي، ثم سألتهم:
– متى تم رصف هذه الشوارع؟
ابتسموا، وقال أحدهم:
– منذ سنة تقريبًا. كان هناك رصف قديم تآكل، والحكومة جددته، ثم أجرت إصلاحات أخرى.
وعرفت منهم أن أهل الحي، الذي يقع على الجانب الآخر من شارع وسيع تتابع فيه عمارات شاهقة ومحال فخمة، يرضون بالمكان الذي قضوا فيه سنوات طويلة من أعمارهم، وعاش فيه الأهل والأحبة والأصدقاء، وجرت الأيام بأفراحها وأتراحها فامتلأت بها الذاكرة، ولا يتصور أغلبهم أنه قد يأتي عليه يوم، ويتم خلعه من هنا، وزرعه هناك، في أي مكان آخر، غريب على نفسه، وقدميه.
لم ترصف الحكومة الشوارع فقط بعد أن عبدتها جيدًا ووسعت فيها على قدر الاستطاعة، بل قامت أيضا بترميم البيوت الخفيضة، وطلاء جدرانها بألوان، وزرعت أمامها شجرًا زاهية خضرته، ورصت أصص ورد إلى جانبها، وعهدت إلى البلدية برعاية الزروع والورود حتى لا تذبل، ومعها يرش الأسفلت، بعد كنسه.
كانت للناس فاترينات بسيطة يبيعون فيها أنواعًا من الحلوى، وعربات صغيرة تعد عليها مأكولات معروضة للشارين، وتطير روائحها إلى أنوف السائرين، والذين ينظرون من النوافذ الضيقة، وكذلك مطاعم ضيقة ومحال بقالة أمدت الحكومة أصحابها بما يحتاجونه من قروض ميسرة السداد، حتى تجري في المكان أرزاقهم سخية. وأمدت الحي بالماء النظيف والصرف الصحي والكهرباء.
في هذا المكان لم أجد سوى الابتسامة العذبة، ولم أشعر بغربة أبدًا وسط بسطاء مقبلين على الدنيا بصدور رحبة رغم رقة أحوالهم. وكلما كنت أمشي تصادفني بنات يركبن دراجات بخارية، ولا يؤذيهن أحد بكلمة خادشة للحياء أو نظرة وقحة، أو لفظ خارج. بدا الناس في انسجام مع المكان، وكأنه صنع من ضلوعهم، أو كأنهم قد خرجوا من أديمه، فرضي هذا بذاك، ولم يفترقا، ولم يغتربا، ولم يُجبر أيّ منهم على ترك الآخر.
هذه الروح تجدها في كل مكان، وبين أهل هذا البلد، منذ أن رأيتهم في مطار الدوحة عائدين من أداء العمرة، يجلسون بانتظام في انتظار الإقلاع، وحتى ودعتهم في النظرة الأخيرة على بلاد ساحرة، تزداد روعتها في عينيك كلما ارتفعت الطائرة إلى أعلى، حيث يتواشج الأخضر مع الأزرق، تحت شمس ساطعة ومطر.

مجلة الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى