بقايا صور لجسر يتداعى

في بدايات عام 1853 خطا الزوجان “نيكولا باتشي” الإيطالي المالطي و”جيزوبينا كالفورا” النمساوية أولى خطواتهما في ميناء الإسكندرية، حلما بحياة جديدة في المدينة التي جذبت أنظار المهاجرين والأجانب من كل العالم إليها، قبل ذلك بأعوام قليلة في عام 1840 أصبحت الإسكندرية محافظة لها محافظ، وهو خورشيد باشا الذي تعين في السنة نفسها محافظًا للمدينة التي تحتضن أكثر من 22 جالية أجنبية، وعددًا ضخمًا من الزوار يصلون عبر مينائها.

حفل زفاف إيلينا باتشي على تشارلز قنواتي، والعائلتان حواليهما

لسنوات كان الزوجان يفكران في مغادرة أوربا التي تمر بحالة من حالات الركود الاقتصادي إلى مدينة مثل الإسكندرية، باعتبارها وجهة استثمارية جيدة ومرحبة بالمستثمرين والمهاجرين على نحو يشبه مدينة “دبي” في العصر الحالي. ميناء ضخم وبنايات جديدة والكثير من الفرص في كل مجالات العمل شجعت الثنائي على حزم أغراضهما والتحرك صوب المدينة الساحلية ليذوبا في النسيج السكاني للإسكندرية، والمكون من الكثير من الجاليات والأعراق، والذي اتسع بسهولة ليشمل كل هذه الجنسيات.
في تلك السنوات كانت الإسكندرية تستعيد نهضة قديمة تشبه نهضتها إبان نشأتها عام 331 ق.م حيث كانت عاصمة مصر الوحيدة، ومدينة تضم مكتبة لتعليم العالم كله العلوم والفنون، كما ضمت أفضل الصناع والفنانين، وراجت بها التجارة؛ بسبب طبيعتها كميناء على البحر المتوسط، غير أن المدينة التي اعتبرت جسرًا وقتها لتدفق المهاجرين إلى مصر، اختارها الكثير من القادمين مقرًا بدلًا من التقدم إلى داخل مصر.

في تلك السنوات كانت الإسكندرية تستعيد نهضتها القديمة إبان نشأتها عام 331 ق.م حيث كانت عاصمة مصر وبها مكتبتها لتعليم العالم كله

لكن تلك المدينة إبان الفتح الإسلامي كانت خسرت الكثير من تلك المقومات؛ حيث اتجهت الأنظار للقاهرة العاصمة الجديدة لمصر على حساب الإسكندرية التي دب الخراب والكساد بها.
وفي نهاية عام 1800 كانت الإسكندرية تعاني من آثار الحملة الفرنسية على مصر حتى قرر “محمد علي” أن يعيد النهضة إليها لتستعيد مجدها السابق؛ فأمر بحفر ترعة المحمودية التي انتهى الحفر بها عام 1820 لتربط المدينة بنهر النيل، وتنشط حركة النقل والتجارة من خلال الترعة، وفي عام 1856 تم مد السكك الحديدية لتربط العاصمة بالإسكندرية، وتزيد من مقومات المدينة التي عاد التألق لمينائها لتصبح وجهة للأوربيين.

الزوجان اللذان وصلا الإسكندرية 1953 وهما نيكولا باتشي وجيزوبينيا كالفرا

في تلك الفترة زادت حركة الهجرة للإسكندرية والعبور من خلالها لباقي مدن مصر أو الاستقرار بها، فحينما استقر الزوجان “نيكولا” و”كالفورا” اختارا منطقة المنشية الراقية والقريبة من الميناء للإقامة بها. بعد سنوات سيتخذ ابنهما “ألفريدو باتشي” مكانًا له، عيادة بوكالة منشا بالمنشية؛ لتصبح عيادته الخاصة التي يستقبل بها المرضى من المصريين ومختلف الجنسيات، كذلك اختارت الأسرة تلك المنطقة لتقيم بها بين العديد من الأسر الراقية والأجانب. ما ساعد الأسرة على الإقامة بالمدينة هو الترحيب بالأجانب والاستثمار فخصص “محمد علي” الأراضي لإقامة المدارس، والكنائس والمعابد لتخدم الجاليات. ومع وجود تلك الخدمات لم تصبح الإسكندرية جسرًا فقط لوجود مينائها، بوابتها على أوربا، بل اتخذتها الجاليات وطنًا تعيش به.
أنجب “ألفريدو” ابنته “ليليانا باتشي” التي تزوجت من “تشارلز قنواتي” ذي الأصول الإنجليزية الشامية، وتظل حياة الأسر على هذا المنوال، بين العمل والتنزه ليلًا في ميدان المنشية لسماع الأوبرا من العازف النمساوي صديق العائلة الذي حصل على تصريح من بلدية الإسكندرية ليشغل الأوبرا على البيانولا؛ لتستمتع بها العائلات الراقية المحيطة بالميدان، وفي نهايات 1890 قرر الزوجان التوسع والاستثمار عن طريق شراء أرض بمنطقة ستانلي الجديدة لتؤسس الأسرة منزلًا من أوائل العمائر بخليج ستانلي.

في نهاية عام 1800 كانت الإسكندرية تعاني من آثار الحملة الفرنسية على مصر حتى قرر “محمد علي” أن يعيد النهضة إليها لتستعيد مجدها السابق

تلك العلاقة الوثيقة التي جمعت الأسرة بالمدينة التي أصبحت وطنًا انهارت فجأة إبان عمل الإنجليز معسكرات الاعتقال ليصادروا أملاك الأسر الإيطالية، ويرحلوهم إلى معسكرات أقيمت في مناطق متفرقة في مصر، يقول “نديم قنواتي” ابن الجيل الرابع لتلك الأسرة، والذي يحمل الجنسية المصرية إن تلك المعسكرات كانت نقطة التحول في علاقة الإيطاليين بمصر، وفور خروج الأسر منها تفرقت عائلته الكبيرة لعدة مناطق، فمنهم من اتجهوا لأمريكا وكندا وإنجلترا ولم يعودوا لإيطاليا التي كانت تعاني من أزمات اقتصادية طاحنة.


العائلة مختلطة الأصول بين الإيطالي والشامي والإنجليزي تلقت ضربة جديدة، حينما بدأ جمال عبد الناصر في مصادرة الأملاك، وفي ذلك الوقت ساد جو عام كاره للوجود الأجنبي في مصر، وهكذا اكتمل خروج العائلة من الإسكندرية عدا فرع أسرة “نديم قنواتي” الذين ظلوا بالمدينة يتابعون في مرارة تبدل أحوالها، من ترييف وتغيير ثقافي بعد أن كانت وجهة للمهاجرين.
يحتفظ “نديم” بالكثير من الصور للإسكندرية القديمة قبل أن تمتد المعاول لتهدم المدينة، وترتفع العمائر العالية في سمائها، حينما يزور جنوب إيطاليا يشعر بالألفة مع تلك المدن الأكثر شبهًا بالإسكندرية التي يحبها؛ فطبيعة السكان متشابهة يغلب عليها الكرم والمعاملة الطيبة عكس مدن الشمال.
لم يكن طرد الأجانب ممنهجًا فقط في الإسكندرية لكن المناخ العام لها أصبح منفرًا لذلك الوجود، امتد الوجود الديني المتشدد لتسجل الإسكندرية أعلى المدن تصويتًا للأحزاب السلفية بعد 2011.
يعقد “نديم” المقارنة بينها وبين مدن القناة التي مازالت محتفظة بطابعها وتركيبها السكاني، عكس الإسكندرية التي طالها النزوح وازدحمت بالسكان مع غياب فرص العمل والاستثمار، لتخفت مكانتها، لكنها تظل على ازدحامها.

روشتة من عيادة ألفريد باتشي والد الجدة إيلينا باتشي

يتذكر “نديم” تحرك الأسرة للذهاب للشاطئ على كورنيش ستانلي ويظل يستعيد تلك الذكريات حينما يتحرك بالمنطقة الآن، يتذكر الفيلَّات التي امتلأت بها والقصور بحدائقها الواسعة.
تعاودني النوستالجيا حينما أستمع لـ “نديم” فبالرغم من ميلادنا في لحظة انهيار المدينة كانت هناك الكثير من اللحظات الرائقة، العائلة مع شمسية وعدة كراسيّ، نتحرك من بيتنا من سيدي بشر حتى الشاطئ؛ لنفترش الرمال مع باقي الأسر، نقضي يومنا على الشاطئ وبالليل نطوي الشمسية جانبًا ونكمل جلستنا حتى منتصف الليل، يذكر “نديم” أيضًا تلك الشمسية التي توجد في بيوتنا كلها كأبناء للمدن الساحلية، حيث البحر ملكنا، ننصبها أمامه وقتما نحب، ونعود بها ليلًا مع فضلاتنا التي لا نتركها لتلوث الشاطئ.
ربما تلك اللحظات والبحر هادئ، وفي المقابل الفيلَّات المهجورة كانت آخر لحظات هدوء المدينة. بعد سنوات سندرك أن امتلاكنا للبحر أصبح خيالًا؛ فالبحر لم يعد ملكنا مثلما كان، والفيلَّات المهجورة حلت محلها الأبراج العالية التي حجبت كل الهواء عن قاطني المدينة.

العائلة مختلطة الأصول بين الإيطالي والشامي والإنجليزي تلقت ضربة جديدة، حينما بدأ جمال عبد الناصر في مصادرة الأملاك

في عام 2022 وبعد أكثر من مائة وخمسين عامًا من انتقال عائلة “قنواتي” للإسكندرية، وتفرقها بين الدول والقارات، تحولت الإسكندرية من الجسر الذي يربط بين أوربا، وتتعايش فيه الجاليات المختلفة في تناغم، لمكان مزدحم وخانق على سكانه ممتلئ بسائحي اليوم الواحد على اعتبار أن المدينة لم تعد تستحق من السياح سوى يوم واحد فقط للزيارة، في ظل جدولهم المزدحم وانشغالهم بزيارة العاصمة المهمة والمدن الأخرى.
في وكالة منشا بالمنشية اختفت عيادة “ألفريد باتشي” وامتلأ المبنى بالورش المزعجة التي تخفي عنا حقيقة أن ذلك المكان امتلأ بعيادات الأطباء الذين فتحوا أبوابهم أمام كل السكان على اختلاف جنسياتهم؛ لتصبح مثل المدينة التي ذوت والجسر القديم بينها وبين أوربا.

مجلة «الجسرة الثقافية» – العدد (61)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى