لوحاته تعكس عالما شديد الخصوصية في التعبير والتلقي… التشكيلي الليبي حسين ديهوم: التخلي عن وميض الضوء

الجسرة الثقافية الالكترونية

عدنان بشير معيتيق

«أليسَ عظيماً أن تُلِمّ مُلِمّةٌ، وليس علينا، في الحقوقِ، مُعوَّلُ… فإن نحنُ لم نَملِك دفاعاً بحادثٍ، تُلِمُّ به الأيامُ، فالموتُ أجمل.
عروة ابن الورد

يرحل بكل هدوء الفنان التشكيلي حسين ديهوم تاركا وراءه ضجيج الحروب والمدافع، هدير الطائرات وأصوات المعارضين من أجل الوطن ومن أجل مصالحهم الشخصية الضيقة، تمزق المكان كتلك الصور المرسومة في لوحاته، ترك خلفه مشاهد مضيئة أبدعتها فرشاته في سنوات مضت لتجربة فنية متميزة من ذاكرة مليئة بحب المكان الذي عاش فيه، تفاصيل بين ثنايا ضربات الألوان ومفردات من الماضي والحاضر لحياة الناس بكل آمالهم وطموحاتهم، أحلامهم . يبتعد الديهوم عن لوحة «الأم والطفل» ليترك لنا المجال لنعيد النظر فيها وفي أنفسنا، أم تتعلق بطفلها في حالة تحجر للمشهد وقسوة المناخ المحيط، تقسيمات حجرية تخفي الكثير وتكشف عن الكثير في زمن الشكوى والمعاناة.
من يرسم الأم والطفل؟ ومن يفصح عن الحب في زمن الكراهية؟ من يسعد عيوننا المتعبة في زمن القبح والتلوث البصري والسمعي؟ من يرسم خربشات الأطفال وأثرهم العابر على حيطان عالية؟ من يفصح عن الجانب المضيء؟ ومن يحجب الآخر المعتم المشوه والقبيح فينا؟
اختار لنفسه طريقا وعرة تفضي إلى عالم شديد الخصوصية في التعبير والتلقي «التجريدية الغنائية» واستحضار الباطني العميق بكل خفة، بفعل تراكم المشاهدات البصرية من حياة الناس العاديين وخبرات أخرى تجمعت بفعل السنين وعمله الدؤوب في هذا المجال، الذي أنتج في أغلب الحالات أعمالا أنيقة تطفو على السطح بجمال ألوانها المتوهجة وتدرجاتها المفعمة بالحيوية والإتقان وتغوص في العمق الإنساني بطريقة إخراج أشكالها وصياغاتها النهائية، فالفنان كان لا يرضى بالتشابه والتقليد ومحاكاة التجارب الأولى للتشكيل الليبي المتمثلة في التسجيل والرصد التاريخي الواقعي، بل كان دائم البحث عن الجديد الخاص به.
متفرد في طرح اقتراحاته متفرد في معالجتها، ربط بين ما أنتج في الغرب من أساليب حديثة وطرق في التعبير، وما يعتمل في ذاكرته التشكيلية من مفردات محلية أضفت على أعماله ألق اللقاء بين الغرب والشرق، القديم والحديث، الساذج والمدرك، الروحي والعقلي. عمل في مجال الملاحة الجوية لفترة من الزمن ثم تفرغ للعمل الفني. أبدع الكثير من الأعمال الفنية وشارك في الكثير من المعارض في الداخل والخارج وزينت أعماله الكثير من كتب الأدباء والشعراء في ليبيا. كان بعيدا عن مؤسسات الزمن الأول وبعيدا عنها في الزمن الثاني.
يرسم طفولة اللعب التي افتقدناها جميعا بكل رهافة في زمن القسوة، بل كان يرسم «عذوبة رسوم الأطفال»، بدائية الزمن الأول للماضي الجميل واستحضار مشاهد يصعب تذكرها، فهي حالات وجدانية ممزوج فيها البصري المرئي باللامرئي فكل ما يعلق بالذاكرة يظهر في نصوصه المرسومة، موسومة بذاكرة شعبية منتبهة لكل ما حدث ويحدث. في شكل انفعالات الفرشاة وسرعتها وأثر الأيدي العابرة وبصماتها وخطوط واهية متقطعة وخربشات أخرى لكلمات غير مقروءة تظهر نصوصا مختلفة عن السائد ومليئة بالخبرة الإنسانية العميقة.
وعي تشكيلي مبكر قادر على التأثير والوصول إلى المتلقي والتغيير في نمط الذائقة البصرية السائدة، قوة تعبيرية مفعمة بالحيوية في تفصيلاتها وشكلها العام منتج فني حداثوي قادر على الوصول إلى الآخر بعد أن تجاوز الحدود الجغرافية للوطن.
تربطه علاقة وثيقة بالأدباء والشعراء الليبيين وصدرت أغلفة كتب عديدة تتزين بلوحاته الفنية البديعة وتضفي رصانة على الإصدارات وتبعث رسائل لتحسين الذائقة البصرية في أوساط النخب المثقفة والمهتمة بهذا المجال. رحل الفنان وترك أعماله الفنية على جدران من اقتناها وعلى رفوف الكتب التي تزينها هذه الأعمال وفي وجدان أصحاب الذائقة البصرية المدركة لخطابات الحداثة.
ولد الفنان حسين ديهوم في مدينة بنغازي الليبية 1958 وعمل في مجال الملاحة الجوية وبعدها تفرغ للعمل الفني. رحل وترك أعماله الفنية قبل أن ينال القدر الكافي من التقدير على تجربته الفنية المميزة في هذا العام من شهر نيسان/أبريل 2016

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى