الكوريغراف اللبناني علي شحرور… راقص «الأحزان» المعاصرة

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

صهيب أيوب

لا لغة حادة في وجه الكوريغراف اللبناني علي شحرور. الهدوء المتسم في عينيه، يتماثل مع الحزن الذي يستخدمه كمادة خام في أعماله. وهو (أي الحزن) على استبداده المقيم، كلغة يومية، سينتقل في عمل ثالث يعدّ نصه شحرور حالياً، في منزله، الذي يكاد يكون مكانه الوحيد في بيروت بعد خشبات مسارحها.
ليس في عادات الشاب العشريني (1989) الخروج كثيراً. يوصل الوقت بالقراءة والبحث والتنقيب بين نصوص الرثاء وقصائد البكائيات وكتابة نصوص كوريغرافية وعروض، والإعداد لإنهاء رسالة الماجستير. والبحث في الموت وجنائزيته، ليس سهلاً، خصوصاً إذا كان التراث الشعبي، المحكي والمدّون، قاعدته. فلا بد من عزلات طويلة في البيت. يقول علي، إن «البيت»، استراحة العمل ومساحته. وربما، استخدام «أحزان» أهل البيت، من آل الرسول (مناسبة عاشوراء)، في مشاهد عروضه الراقصة، فيها شيء من هذا التطابق. فالبيت هو المكان الأنيس/ الآمن، وأيضاً مصدر الحزن وشظاياه، حيث يستنفد، علي، معظم وقته في مراجعة «أشرطة» مجالس عزاء لعاشوراء، أو في الاستماع عبر «يوتيوب» إلى مقاطع مسجلة لشعر عامي يندب الموتى. والموت كفكرة مدهشة ومؤلمة على حدّ سواء، هو ما لفت انتباه شحرور منذ مراهقته. شعور الفقد، الذي مرّ به، وعاينه عن قرب، كان محوراً أساسياً في محاكاة، أكثر الأسئلة الإنسانية حضوراً في الحياة وأكثرها قسوة. ما معنى ان يموت شخص عزيز علينا؟ أو كيف نتأقلم في حمل ثقل موته، في حركاتنا اليومية، ونحن نحس به، أكثر من وجوده في الحياة؟ وعن ديمومة هذا الطقس (الرثاء)، وتذكره، في موت الآخرين، الأقرباء والجيران أو حتى الغرباء عنا. وهذه الفكرة، اشتغل عليها سينمائياً، مرات عدّة، عن حضور أشخاص لمآتم موتى لا يعرفونهم، ويشاركونهم مناسبة الموت. لأن الحزن هنا، ليس على الميت /الغريب، بل على الذات وثقوبها الخاصة.
المقاربة الفيزيائية – المرتجلة، للموت، استخدمها شحرور، في عملَيه الأوّلين، «فاطمة» و«موت ليلى» في رقصات أشبه بمناجاة، أكثر من كونها ندبا بحتا. ترتفع فيها حركات الأجسام وتتباطأ، مع طرقات مجوّفة لطقوس الموت وغنائيته، فوق الصدر، وعلى الكتفين، أو في الضرب المخفف على القدمين والركبتين، أو في التسامي في حالة الحزن/الفرح، ليتحول الندب إلى رقص وزغردة. شيء احتفالي، يذكر بأن الموت، إقبال شفيف على الحياة، والخسارة نوع من الاكتشاف والخلق.
الاستمرار الجليّ والدائم، للرثاء، ربما هو طقس بيتيّ، يحرص أيضاً شحرور، على متابعته في عزلته. فالكتابة بين جدران البيت، والتعامل مع الفقدان، بهذه الشهية من التنقيب، وتعمدّه في المسرح بين خلط الذاكرة الشخصية، بالتعامل مع الموت، ومشاهده، وبين مرجعياته في الحيّ ووسط نساء العائلة ورجالها، وأيضاً «الحزن الكربلائي» السنوي، في الحسينيات، وفي بعض أحياء بيروت، ليس سوى محاولة ترسيخ لهذا النوع من الفن. فـ»عاشوراء هي كيروغرافيا»، وفق ما يصف، وهي»ملك الناس جميعاً».
بدايات شحرور، كانت مع فرقة عمر راجح، ومع مهرجان «بيروت للرقص المعاصر»، قبل أن يقرر أن يستقل بأعماله، ليلقى دعماً من فرقة «زقاق». كان الرقص يومها حاجة هذا الجسم إلى التعبير. وحين تمرّس علي، في جسمه، لم يعد الرقص، بتقنيته وتجريده، يشبع الحاجة للتعبير إلى الحدّ الأقصى، وليس عن الذات فحسب، بل أيضاً عن الآخرين. فاستخراج فكرة شخصية، كالموت، ومشاركتها مع جمهور عام، كما يحصل في مجلس عزاء، وتعرية المشاعر من دون تكلف، أو تبذير، وبهذه الأريحية المرّة، هو بحدّ ذاته ما يسمى بذرة مشروعه. ليطلق العنان، لتحويل ما هو جمعي، في ذاكرته ونصوصه، وفردي من ألمه وأثره الشخصي، إلى عمل يحاكي الرقص المعاصر. وهو ما تحتاجه بيروت. فهذا الفن يتم استجلابه جلباً وإسقاطه في محيط، تبدو النخبة، على تأثر وتجاوب معه. بينما ما قام به شحرور، على بساطته والاجتهاد به، هو مراعاة العوام، وإدخالهم في النص والحركة، كأنهم جزء من نواحه وزعله وموسيقاه، وبدءا منه وإليه.
الناس هم مرجعية شحرور.. انسيابيته وضرورات تفاعله.. وهم أيضاً ارتكاز لعروضه، فذاكرته هي أيضاً شيء من «وزر» ذاكرتهم، واستخداماته (تقنية ونصاً)، هي استخداماتهم. وهذا ما حصل في إشراك ليلى، إحدى قريبات شحرور، الندابة، في عرض مسرحي، لم تمثل فيه السيدة المحجبة، بل كانت تستحضر دورها العادي، من دون «روتشة»، فبدا علي والعازفون في موسيقاهم وتمثيلهم، أدواتها هي، وخدمة لفكرة ندبها. يقول علي، إن مشكلة الفن المعاصر، ليس في الجمهور بل بالفنان نفسه. يتعامل الراقص العربي مع الفن على أساسه الغربي ووفقاً لمدارسه الأولى، فلا يطوّعه لما يخدم جمهوره وبيئته. ما قمت به، هو الاشتغال على فكرة شعبية، يومية وحاضرة، في حياة الناس العادية، وتوظيفها في الرقص المعاصر.
إذ أخرجت هذا الفن من نخبويته، وتعاطيت معه باليومي والمعاش، وبتكيف لم يخسر من تقنيته ولا من خيوطه المركبة مع الجمهور.
ويبدو أن الشاب في رحلته الأولى إلى مهرجان «أفينيون» للمسرح في فرنسا، سيحجز مقعده عالمياً، حيث يستمر في جولته العالمية بعد انتقال العرضين إلى خشبات مسارح عدّة في أوروبا، وستكون أعماله ضمن فعاليات الدورة الـ70 من المهرجان المسرحي الأضخم عالمياً (يبدأ في 4 تموز/يوليو إلى 24 منه). لكن كل هذا على شدّة أهميته، لا يغريه بل يشجعه، هو الذي يصرّ على انتمائه إلى مسارح بيروت وبيئتها، كما ينتمي العرضان إلى ناسها، سكانها الأول والنازحين إليها من الأطراف. يؤكد علي، على أن «انتقال العملين الراقصين إلى فرنسا مهم. لكنه ليس هو الهدف. فالجمهور الذي ستعرض أمامه لن يفهم الكثير من اللغة الشفهية والغنائية المرافقة لطقوس الحزن، التي يتعامل معها العرضان، وقد يتعامل معها بمسافة كونه بعيدا عن تفاصيل ومحور هذه الطقوس وارتباطها الوثيق بما هو ديني وسياسي واجتماعي». فالشاب يستنطق موروث الأحزان وطقوس العزاء في حلّة ممسرحة، وبرقص معاصر. يتيح للندب المكلوم أن يتآلف مع حضوره الأول جنائزياً، على خشبة عامة، وأمام جمهور لا تعنيه الفجيعة.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى