«باولو» يوسف رخا زعيم مجهول للثورة

لنا عبد الرحمن

وسط أجواء كابوسية حافلة بالعوالم الخلفية المجهولة للحراك الثوري، تنضم رواية «باولو» للكاتب يوسف رخا الصادرة عن دار التنوير، إلى قائمة الروايات التي تتناول ما حدث خلال ثورة يناير 2011 وبعدها، وتتخذ من «التدوين» شكلاً للسرد الروائي على اعتبار أنها تفريغ لمدونة «الأسد على حق»، التي ظهرت على الإنترنت، بالتزامن مع فض اعتصامَي «رابعة» و «النهضة» لأنصار الرئيس المصري السابق محمد مرسي.
إذاً تنطلق رواية «باولو» من اختيار سياق سياسي للسرد، إنه القالب الرئيس للرواية- المدونة، المكونة من تسع وخمسين تدوينة تتضمن أفلاماً، لقاءات، أحداثاً، أحلاماً؛ تتقاطع كلها عند الهدف ذاته في الكشف عن الصراعات السرية المشتعلة بين جميع الأطراف في أعقاب ثورة يناير.
يحمل عنوان الرواية «باولو» اسم البطل الذي يختصر في شخصيته مجموعة من التناقضات المنسجمة مع المرحلة الزمنية التي تدور فيها الأحداث. باولو مصور فوتوغرافي، ومدير مكتبة في منطقة وسط البلد، عميل للأمن، دون جوان، مهووس، ومجرم، ويعتبر نفسه زعيماً خفياً للثورة.
منذ الصفحات الأولى يضعنا رخا أمام هوية بطله باولو من خلال معلومات مباشرة في تدوينة: «من أنا.. عامر محمد جلال أبو الليل بغاغو، الشهرة: باولو. فوتوغرافي ومصور فيديوهات معروف في وسط البلد و في أوساط الدوائر الثورية، مصري، مسلم، أعزب، من مواليد 1976».
لكن باولو فنان ومثقف في الوقت نفسه، بالإضافة إلى موهبة التصوير، كان يكتب الشعر، ويشكل مع صديقين له مجموعة شعرية اسمها «التماسيح»، وقد انتهى بهما الأمر إلى أن مات أحدهما وهرب الآخر، فيما انتهى مصير باولو عميلاً للأمن.
تتقاطع كل هذه الصفات في شخصية البطل الذي يمكن اعتباره الوحيد على مدار السرد، حيث تبدو سائر الشخصيات هامشية، تظهر وتختفي مقارنة مع حضوره المحوري الذي يتخذ أكثر من بعد في آن واحد. يمتلك باولو فتنة السيطرة على كل من يتعامل معهم، من دون بذل جهد كبير في ذلك. فالنساء يتمكن من إقناعهن بالتحول إلى موديلات وتصويرهن عاريات، شرط أن لا يظهر الوجه، ثم إيقاعهن بحبه، من دون أن تنجو أي واحدة منهن من الموت، أما الشباب فيتمكن من توظيفهم كمعاونين له عبر تحويلهم مخبرين يتجسسون على المتظاهرين في المقاهي وداخل المظاهرات.
تناقش الرواية مباشرة العديد من الحقائق مع ذكر التفاصيل والأحداث الواقعية، مثل حادثة استاد بورسعيد عام 2012، المليونيات، الانتخابات، مع تبيان ردود فعل الأبطال في نقد لاذع للحدث أو ما تلاه من «واقف»، كاشفة عن اضطراب النخب المدنية، وعجزها، صراع الإسلام السياسي الداخلي، وصراع مراكز القوى بين جميع الأطراف الطامحة للوصول إلى الحكم، ثم طرق توظيف كل ما يحدث في تخبط عشوائي لا يؤدي إلا إلى مزيد من الخراب والتشوه.
لا يفصل رخا السياسي عن الأدبي في روايته، وكأنه يدافع عن وجهة نظره في أن عزلة الكاتب عن واقعه لم تعد متاحة، ويطلب من قارئه إعادة النظر في كل ما حدث في أعقاب ثورة 2011. ويمضي مبتعداً في روايته عن التخييل، بل إنه يميل مباشرة للتوثيق التسجيلي من دون مواربة، ليس على مستوى الوقائع السياسية فقط، بل في ما يخص الحراك الثقافي في تلك المرحلة لنقرأ: «كنا نناقش رواية بهاء طاهر «واحة الغروب» لأنها فازت بجائزة البوكر العربية في دورتها الأولى، البوكر العربية هذه كانت الناس متحمسة لها بشكل غريب، وكنا متفقين على أن رواية مكاوي سعيد «تغريدة البجعة» التي كانت معها على القائمة القصيرة أحق منها».
يمكن رؤية «باولو» من منظار كاشف لنتوءات الشخصية الروائية في كل أبعادها وتشوهاتها النفسية، فباولو هنا يعتبر عنصراً محركاً ترك تأثيراته داخل الحراك الثوري، من خلال الذين تعامل معهم من أشخاص واقعيين في حياته، أو عبر كتابته التي اختارت شكل التدوين، وهو أسلوب شبابي عصري للبوح، سواء عبر التخفي أو الكشف عن شخصية المتكلم، و من هنا يمكن اعتبار باولو نموذجاً متكرراً وليس حالة خاصة.
انطلاقاً من هذا، تنسجم تناقضات البطل والدوائر المحيطة به، من عنف، وموت، وحياة، وجنس، وعمالة، وتصوير، وشعر، مع وجود تأويلات عدة لهوية المثقف الحالي في صراعه مع السلطة، أو في استسلامه، أو في تحوله التابع لها، أو في مقاومته وتعبيره عن الرفض للانصياع المادي والفكري.
لكن بطل رخا ليس من النوع الأخير، ولا يمثل النموذج التقليدي للمثقف. إنه شخصية مركبة، ونتاج طبيعي لكل الفجائع التي حصلت في أعقاب ثورات الربيع العربي، من حروب وإرهاب واقعي وفكري واجتماعي.
لا يمكن اعتبار باولو فرداً له حكاية خاصة متفردة، غير متكررة، لأن حكايته هي حكاية شريحة عريضة أثرت ومازالت تؤثر في ما يحدث في مصر. ربما مع مزيد من التمويه، ومن دون ارتباط باولو في تدوين أحداث خاصة بالثورة المصرية فقط، كان من الممكن التعامل معه على أنه نموذج موجود في كل البلدان التي قامت بها الثورات.
تجدر الإشارة أيضاً إلى الجانب اللغوي، بحيث يستخدم صاحب رواية «الطغرى» لغة يدمج فيها بين العامية والفصحى في تعمد واضح خلال جملة واحدة، من دون الاستعانة بالتنصيص، وهذا يبدو متعمداً بسبب اختيار صيغة التدوين إطاراً للسرد ككل.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى