معرض بيروت للكتاب يحتفل بعيده الستين: لا عيب في الشَّيْخوخة!

رشا الأمير

وفي روزنامة عامنا هذا، 2016، أن معرض الكتاب العربي، أي معرض الكتاب السنوي في بيروت، يحتفل بعيده الستين. ولا عيب في الستين، ولا في الشيب، ولا في أن تستذكر سنة الولادة تلك، 1956، التي تنزل من التاريخ اللبناني، شأن سنوات لبنانية أخرى، منها القريب ومنها البعيد، منزلة على حدة لما اجتمع فيها من «جد» ومن «لعب»، ومِنْ توجّس مِنَ الآتي الأعظم ومن لامبالاة مستخِفّة بهذا الآتي. وللذكرى، ففي تلك السنة التي ولد فيها هذا المشروع، كنشاط طالبي، بهمّة شبابية رائدها الحماس، في قاعة متواضعة من قاعات الجامعة الأمريكيّة، تمّ في مصر تأميم قناة السويس ووقع العدوان الثلاثي، أمّا لبنانياً، فهي سنة الزلزال الشهير، وسنة التصويت في مجلس النواب على قانون السرية المصرفية، وسنة الإطلاق الرسمي لمِهرجانات بعلبك الدوليّة.
لا يضير معرض الكتاب أن تكون ولادته قد مرت في تلك الزحمة مرور الكرام، فالعبرة ليست دائماً في الولادة، وإنما في الريعان والشباب والكهولة وهكذا، وبلحاظ مراحل الحياة هذه لا بد للاعتراف لمعرض الكتاب العربي بأنه اشتق لنفسه، بين المناسبات السنوية التي تعمُر بها بيروت، كما بين معارض الكتاب العربية، مكانة خاصّة تكاد أن تُنسى معها ولادته المتواضعة تلك. بالطبع، حق الذين أطلقوا الفكرة لستين خلت أن يُذكروا، وأن يُكَرّموا (هل يُعدّ القائمون على المعرض لشيء من هذا القبيل؟)، وكذلك حق الذين تناوبوا على حمل الراية إلى يومنا هذا، سوى أنّ تأدية مناسك الاعتراف بالفضل والجميل لا تكتمل من دون التوقف، والتوقف مطوّلاً وملياً، عند «الظروف الموضوعية» التي مكّنت هذا المعرض من المكانة والشهرة اللتين كُتبتا له، واللتين هما، اليوم، من منظميه في محل التركة المنذورة لأن تُهدر أو لأن تثمّر، لا بين بين، مع العلم أنّ توهّم المحافظة على تلك التركة كما هي، باب مقنع من أبواب الهدر البطيء ليس إلا.
تنقّل معرض الكتاب العربي بين مطارح بيروتية عدة، فألقى عصا الترحال لسنوات في الغرفة الزجاجية الملحقة بوزارة السياحة ثم ضاق عليه المكان فارتحل إلى مكان يجمع الوساعة إلى الكآبة بجوار فندق فينيسيا، ثم إلى خيمة عملاقة وسط بيروت، ثم كان ما كان من الفراغ، أو شبه الفراغ، من إنشاء شبه جزيرة البيال على نُفايات الحرب من جثث ومن أنقاض، وتحقق لأحدهم أن يصير لبيروت «مركز معارض»، فكان من الطبيعي أن يُهاجر «المعرض» إليه.
تابع «المعرض» هذه البيروت في حلها وترحالها، ولكن بيروت، في كل هذه الأثناء، لم تتوقف عن إعادة صياغة نفسها، وعن إعادة تعريفها، وفي سياق إعادة الصياغة والتعريف هذه المتمحورة، ابتداء، على التشكيك، همسًا متى ما بدا التصريح مغالاة في غير محلها، بمركزية بيروت نفسها كانت محاولات لإنشاء معارض كتاب أخرى، تعبّر عن تعدد القطبيات الجغرافية الموروث من «الحرب»، وهو في الحقيقة تعدد ممدوح ومحمود، كما تعبّر عن أمزجة سياسية وثقافية لا تجد لنفسها محلاً في معرض الكتاب العربي، الذي يحرص على رفع نَسَبِه، عاماً بعد عام، إلى عروبة افتراضية جامعة.
رغم هذه المنافسات، حافظ معرض الكتاب العربي على مركزيته بوصفه «المقصد» السنوي، والأرجح أن هذا النجاح لا يدين لتفوّق في التنظيم، أو لتمّيز في النشاطات المرافقة له بوصفه «سوقاً» للكتاب ـ ولا عيب في ذلك ولا حرج ـ بل يدين لأسباب قد لا يبدو اجتماعها بديهيًا ؛ في الطليعة منها، ولعله الوحيد الذي يُنسب الفضل فيه لمنظّمي المعرض، مثابرتهم بلا انقطاع، وتحت كل الظروف، على إقامته. أما الثاني ولعله الأهم فإن صناعة الكتاب في لبنان، رغم تبدّل الأحوال والظروف، حافظت على محلها من قطاع الخدمات، وبوصفها كذلك، نأت بنفسها عن التحول إلى بند خلافيّ يتابع خطوط التماس المناطقية والمذهبية. بكلام آخر، إنّ ما يُبقي صناعة الكتاب مزدهرة إلى حد ما، بل عمودها الاقتصادي المعمود، هو الكتاب الإسلامي السني والشيعي سواء بسواء. وفي هذا المجال، لا اعتبار عند تاجر ورق، أو صـــــاحب مطبـــعة شيعي يلعن الصحابة، بأن يرتزق من فتاوى ابن تيمية، ولا اعتبار عند صاحب معمل تجليد يُكَفّر الشيعة بأن يرتزق من ـ ـ بحار الأنوار ـ ـ أو من هذه الرسالة العملية أو تلك. بطبيعة الحال، لا توافق هذه الخدمات، ولا يوافق اقتصادها، «صورة الثقافة» التي يحب اللبنانيون واللبنانيات ترويجها عن لبنان وعن أنفسهم، ولعل هذا التغاضي، وهو تغاضٍ أقربُ إلى الموقف الثابت، عن الشقة البعيدة بين اقتصاد صناعة الكتاب، وبين الصورة المتداولة عن الثقافة الكتبيّة، وتبنيه من منظمي المعرض، على غرار كثيرين سواهم، أن يكون السبب الثالث وراء ما حافظ عليه معرض الكتاب العربي من مركزيّته بين المعارض اللبنانية والعربية.
في كانون الأول/ ديسمبر المقبل، على مسافة مقبولة من عيد الميلاد، برعاية رئيس مجلس الوزراء، تنطلق النسخة الستون من «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب»، ويتحول «مركز بيال للمعارض»، وفق التسمية الرسمية، شأنه كلّ عام، إلى ذلك المكان الهجين الذي يأخذ من البازار بطرف، ومن المٌتَسَكَّعِ بطرف آخر، ومن مِنَصَّةِ المجد العابر لشاعِر يحتفل به أنسباؤه والأصدقاء بطرف ثالث، وتمضي أيام المعرض، ويحبّر المحبّرون مقالاتهم، ويتنافس الموقعون على تحطيم أرقام قياسية مجهريّة، ثم يكون اليوم ما بعد الأخير من أيام المعرض، وهو اليوم الذي يجلو فيه العارضون، مع كتبهم وما ينزلونه منزلتها من السلع، عن «البيال» في مشهد أدنى إلى الهروب الجماعي منه إلى أي شيء آخر.
في عام 2016، لا يبدو أن معرض الكتاب العربي، أقله بشهادة الدعوة إلى المشاركة فيه التي وزّعت على الناشرين، يتأهب لأن يتخذ من ستينيته مناسبة لـ«نقلة» ما، أو مفاجأة ما أو لشيء من هذا القبيل، والحال والحقيقة والواقع، وما إلى هؤلاء جميعاً، ألا أسباب موضوعيةً موجِبَةً لأن تكون «نقلة»، ولا مبشّرات مفرحة في الأفق كأن يتعاطى المنظّمون مع الناشرين بتعاضد وإنسانيّة. لا، يفرض القائمون على المناسبة أرض معارضهم التي باتت مرهقة وأسلوبهم وخياراتهم الغرائبيّة في توزيع الأجنحة وتنظيم الخرائط.
في عيده الستين يشــــيخ معـــــرض الكتاب العربي سنة إضافــــية… وتشــــيخ بيروت التي شهدت نشأته ســـنة إضافية… ونشيخ معهما… ولا يبقى إلا أن نتعزّى جميعاً بأنه … لا عيبَ في الشيخوخة!

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى