غورسيل يستعيد ماضيه وماضي تركيا القريب روائيا

انطوان جوكي

منذ نصه السردي الأول “صيف طويل في إسطنبول” في عام 1976 ما برح الكاتب التركي نديم غورسيل يخلط الماضي بالحاضر في رواياته، مستقيا غالبا مادة هذه الروايات من حياته الغنية بالأحداث والأسفار، وأيضا من واقع وطنه وتاريخه الحديث.
روايته الأخيرة “ابن النقيب” التي صدرت حديثا في فرنسا لا تشذ عن هذه القاعدة، علما بأنه يتخفى فيها خلف شخصية صحفي عجوز أضحى الماضي واقعه الوحيد، ولذلك نراه يعيش معزولا في شقته بإسطنبول ومسترسلا في تذكر اللحظات المهمة من حياته الطويلة.
تنطلق عملية السرد باستحضار الراوي فقدانه الباكر لأمه اليتيمة التي يشبه قدرها قدر الكثير من “نساء الأناضول اللواتي يرحلن عن هذه الدنيا من دون أن يختبرن الحياة”. فقدان يشكل بداية انحراف مساره الشخصي ومسار عائلته.
فمع أن والده لن يتزوج بعد وفاته زوجته لكنه سيدمن على الكحول ويهمل ابنه، تاركا لوالدته العجوز مهمة الاعتناء بحفيدها من حين إلى آخر، وللدولة التركية مهمة تأمين منحة دراسية له.
هكذا سيجد الراوي الطفل نفسه بين ليلة وضحاها تلميذا داخليا في ثانوية “غلطة سراي”، حيث سيمضي ثماني سنوات من حياته يختبر فيها العزلة والهجران وصعوبات العيش في مساكن الطلبة: “داخل صالات الدراسة بمقاعدها الخشبية وألواحها السوداء، داخل الأروقة المعتمة والباردة، وحجرة الطعام الضيقة، خلف أبواب المدرسة المقفلة، لم تكن الحياة سوى حلم بعيد يتعذر بلوغه”.
ثماني سنوات
ثماني سنوات يسرد الراوي الكثير من أحداثها متوقفا عند شخصيات رفاقه وطبيعة نقاشاتهم، وعند مواصفات أساتذته، وأيضا عند استيقاظ رغباته واكتشافه مشاعر الحب وعشقه للغة الفرنسية.
باختصار، مرحلة ستصقل شخصيته وتنمي فيه نزعة التمرد ضد السلطة: سلطة الأب الضابط الذي سيشارك في الانقلاب العسكري عام 1960 ويصبح أحد وجوه الحكم في تركيا آنذاك، والسلطة السياسية بجميع رموزها وتجلياتها.
وهذا ما يقودنا إلى الموضوع الآخر الرئيس الذي يقاربه غورسيل عبر روايته بطرافة لا تخلو من سخرية مريرة، ونقصد وضع وطنه خلال العقود الخمسة الأخيرة. وفي هذا السياق، يسلط الضوء على أحلام تركيا الأوروبية التي أجهضت، وعلى مشاريع الإعمار المشبوهة التي دمرت أحياء إسطنبول القديمة وذاكرتها، وعلى عيوب أخرى كثيرة في سياسات الحكومات التركية المتعاقبة.
وهذا لا يعني أن تجاوزات العسكر وبطش رجال الأمن يفلتان من انتقاده الذي يطال أيضا النزعة القومية المتنامية منذ وصول أتاتورك إلى الحكم في تركيا، نزعة لطالما دفعت الأقليات ثمنها، مذكرا بمعاناة اليونانيين والأرمن والبلغار والمقدونيين في السابق، وبما يعانيه الأكراد إلى حد اليوم.
ويعزز خطاب الرواية صيغة المتكلم التي اعتمدها غورسيل لسردها والاقتباسات الغزيرة التي نقرؤها لشعراء أتراك وأجانب داخل نصها.
بورتريهات
أما قوتها فتكمن في مهارة الكاتب في رسم بورتريهات غنية بالألوان لشخصيات واقعية أو مبتكرة، مثل فيرلاما رفيق الراوي الشبقي وصاحب اللسان القارص والبذيء، أو والد الراوي الذي لن يبدد وصوله إلى أعلى مراتب السلطة خوفه من أمه، أو هذه الأم -جدة الراوي- التي بقيت طوال حياتها تحلم في انتزاع ابنها لقب باشا وتحن إلى موطن طفولتها في البلقان الذي غادرته مجبرة لدى انهيار الإمبراطورية العثمانية.
لكن أجمل صفحات الرواية هي تلك التي نقرؤها في البداية عن مشاعر الراوي تجاه أمه ورفضه قبول موتها وبحثه لاحقا عنها في شوارع وحدائق إسطنبول ومدن بعيدة أخرى، والصفحات المرصودة لموضوع السفر أو لإسطنبول نفسها التي لا تحضر كمجرد إطار جميل لروايته، بل أيضا كمدينة آسيوية وأوروبية في جغرافيتها، وبالتالي كاستعارة لهوية ثقافية مزدوجة تهزأ من ميول بعض الأتراك إلى التشدد الديني أو التعصب القومي.
يبقى أن نشير إلى أن هذه الرواية -بخلاف روايات غورسيل السابقة- تعاني من بعض نقاط الضعف التي كان يمكن تفاديها، كجانب الثرثرة وتكرار بعض المعطيات داخل النص من دون مبرر، ومحاولة تصوير عملية تداعي ذكريات الصحفي العجوز كما تحضر إلى ذهنه بدقة على حساب بنية الرواية ورشاقة حبكتها، من دون أن ننسى نواح الراوي على طول النص الذي يحول دون التماثل معه أو حتى تفهم وضعه.

(الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى