رسائل شاردة

خاص ( الجسرة)

*محمد حمدان الرقب

ليتني كنت رسالة لم ترسلْها إليّ؛ كي أبقى قارًّا في قلبك أمدًا طويلًا.
حلمتُ، أني حمامة بيضاءُ، تطيرُ بجذل فوق الكروم، حرّة وخفيفة، فانتبهت من نومي مرتطمًا بالواقعِ البئيس الذي فَضلَ لي (!).
أكان عليّ أن أهيّئ نفسي لاستقبال جيوش الألم قبْلَ أن يباغتني؛ فأغالبَه ويغالبني؟ أم أجعله ينهش في جسمي وروحي ويتركني أشلاء ممزّقة دون أقلّ مقاومة، وكأنّها سنّة الحياة؟
قُرْبانُ الوفاءِ كنتُ أنا (!) أهكذا تسير الأمور في الحياة ؟ ومشاعل النور كنْتُ أنا (!) كيف أقدّم قنديلًا لكَ ثمّ أجلس في الظلمة وحْدي (؟!)
كثيرة هي الحكايات التي سمعتها أو قرأتها وأشفقْت على أصحابها الأبطال من العمر الذي يتعقّبهم.
في الحبّ يوجد طرفان متناقضان: بَطَلٌ يحارب الناس من أجل سعادته التي يظنّ، والآخر آخر همّه إرضاء ذاك البطل (!) فأين الحبّ إذن ؟
أحببتُ حتّى التهمت كلّ كتب الحبّ؛ أبحث عن درجاته وأحواله؛ كيْ أعرف إلى أيّ درجةٍ وصلْت إليها (!) كانت درجةً لم تصنّف بعْدُ في دواوين العشّاق، وكتب المحبيّن (!) كانت درجة فوق كلّ الدرجات، نادّة شاردة، لم ترتقِ إليها روح عاشقٍ من قبْلٍ، ولا أظنّ أنّ عاشقًا يمكن أن يصل إليها؛ إلا إن كانَ (أنا) !
فهويتُ من هذه الدرجة العالية كأنّها جبلٌ شاهقٌ وَعِرٌ مسلكه، إلى أسفل بقعة في الأرض (!) وهذه عاقبة كلّ مُشْرِفٍ لا يأمنُ غدر الحبّ ولا بوائق المحبين.
لكنّي حاولتُ أن أحبّ، ورغم كلّ الخسائر التي تكبّدتها وَحْدي (هجران الحبيب-معاداة الأهل-مجافاة النوم-إهمال الدراسة-فقدان الوزن-مشاهدة برنامجي المفضّل-مزاولة هواياتي الأثيرة) رغم كلّ شيْء فقد حاولت أن أحبّ، ولكني لم أستسلم بسهولة، تركتُني أتألم وأتوجّع وأصرخ بملْء إخلاصي، ولكنّني لم أستسلمْ لجحافل الحزْن والاكتئاب. قاومتُ نفسي بنفسي، وانتشلتُ يدي بيدي الأخرى من قاع البئر المظلم.
لا بدّ لي الآن، وأنا الذي تألمت وتعلّمت مِنْ أن أخرج بنتيجة تزيل الشكّ عني في أمر “الحبّ”؛ فاكتشفْتُ أنّ الحبّ الحقيقي قدْ ماتَ ولم يعدْ له وجود، وأنّ هذا الحبّ المبثوث في الأسواق، وفي جنبات الشوارع، وأزقة المدن، وتحت النوافذ، وساحات الجامعات، إنما هو نسخة مزوّرة لأسطورة ماتت منذ القِدَم. وأنّ الحبّ المتداول هذه الأيام لم يكن مبتغى الناس، بل هو مطيّة لمآربَ أُخَرَ تتمثل في الإشباع الجسدي أو تحصيل المنافع أو الفوائد…! هذا يعني أنّ الحبّ في أصله إشباع روحيّ يفرّخ الخلود..! وأيُّنَا في هذا الزمن مَنْ يفرّخ ويخلد…؟
بعد حادثتي معك، أيّها المنصرف من واقعي المكدّس في ذاكرتي صادفتُ إحداهنّ، مُحِبّة، أو تتوهّم أنها محبّة، تقول لي: سَأعيش أنا وحبيبي “زوجَ المستقبل” بعيدَيْن عن صخب الحياة وضوضائها، سنتحدّى كلّ الظروف وكلّ الأحوال، وكلّ الجسور والعنابر، وسَنختزل المسافات الشاسعة بكلمة “أحبك” مِنْ كلينا، نردم بها هوّة كبيرة مِنَ الخلافات والمثبّطات والشوارع والطرقات…!
قُلتُ في نفسي: يا لها مِنْ حالمة (!) تحبّين شخصًا ساقط الهمّة (!)
إنْ أحدٌ منّا لم يكن بمكنته أنْ يَخْدمَ نفسَه بنفسِه؛ فكيف له أن يذيع على أسماع “محبوبته” أشياءَ سينفّذها إذا ما ظفر بها زوجةً و “وليفة”…!؟
ما هذا الحُمْقُ؟ ما هذا الغَباء؟
تُكْمِلُ أحلامها: سَنفرش الأرض بعبير حبّنا، وسنبني به أحلامنا التي طالت، وسنُثْبِتُ للعالَم المتربّص بنا والوشاة الذين يحدجوننا بأبصارهم، وحتى للذين نصحونا وكانوا لنا “نُذُرًا”….!
تخيّلْتُ الموَقِف. هي تحكي أحلامها. وأنا أستمع لها ولأحلامها. سأُدْخِلُ حبيبها شريكاً لنا في اللعبة، ماذا سَيقول لو سمع “ثرثرتها”…؟!
أظُنّ –وبعض الظنّ ليس بإثْمٍ- أنّ في داخله حديثَ ساخرٍ، وفمًا يقهقه بملء كَذِبه.! سَيقول: أنا..! ويطلق ضحكة مدوّية في الهواء…! أنا..!
أنا وأنت سنتحدّى…!؟ نتحدّى مَنْ….؟ الحب!؟ أنا أحبّك..!
هي لا تعرف شيئًا عن ضميره المستتر في داخله.
هي تعرف عنه أنه يحبها بملء أدبه وأخلاقه، يعطف عليها ويحدِب، يرأف بها وعليها يتحنّن، يسهر على راحتها ويفديها بنفسه وماله، يكون دمعة في عينيها.
هو يعرف أنه كاذب، ويعرف أنها ضحيّة، ويعرف أنْ لا وجودَ للحبّ، ويعرف أنها تصدّقه “بحبّ مرقّع” ويعرف أنه لا يعرف سوى المخاتلات والزيف الطويل…!
هي تنام على “أحبك” وتستيقظ على “أفتقدك”…!
هو ينام على ألف مكالمة، ويستيقظ على ألف “صباح الخيبة” من ألف جهة واهمة…!
تركْتُ أحلامها حينًا مِنَ الدهر. أنا حذّرْتها وأسديْتُ لها نصحي أنْ لا حبّ بعد اليومَ ولا وفاء….! أضمرتْ سخريّةً منْ كلامي وحكمتي “غير الناضجة” في نظرها (هي لم تطّلع على تجربتي)… مرت الأيّام تترى. ومرّ حبيبها كأنْ لم يكن بينه وبينها مودّة…! هي قدّمت له كلّ أشياءها النبيلة وأولها “قلبها” وهو قدّم لها كلّ أشياءَه المراوغة وأولها “لسانه” فَعَنَا قلبها للسانه واستكن…!
وأنا بينهما سادرٌ…! أوّلُ مَنْ هوجم من قبلُ ومِنْ بعدُ.. لم تصدّقني في الأولى ولم تكذّبْني في الثانية. هي بعد أن كُشِفَ الغطاءُ كأنها “حقدتْ” عليّ وعلى قايبلَ مِن قبلي وكل جنس “آدم” وكأنهنّ بناتِ “حوّاء” بريئات….! كان عليها أن تستمع لنصحي قبل أن حدث الذي حدث…! ولكنها جعلت أصابعها في آذانها…!
هي قبل الحادثة أحبتْ كل رجال العالم لأنهم مختزلون في “حبيبها” صاحب الأمجاد والأوسمة الرفيعة.! وهي نَفْسُها كرهت كلّ رجال العالم؛ لأنهم نسخة طبق الأصل لـ “حبيبها” صاحب التكاذيب…!
هي تحب الرجل. من قبل
وهي كرهت الرجل. من بعد..!
كرهت الرجال لأنّ قابيل قتل هابيل من غيرته منه.! تكره كلّ بني آدم من أجلِ رجل “خائن”. من أجلِ رجلٍ أوهمها بالحياة الطيبة والعيش الغَضِر…! ولم تعلم تلك المسكينة أنْ لا وجودَ للحبّ بهذا التصوّر الذي تفكّر به…! إنما مصلحة طاغية وبدائل في “الاحتياط” إن أخفق بديل تقدّم آخر…!
ولكنها لا تسمع، ولن تسمع.
أمّا أنا، فرغم كلّ شيْء، ومع تجاربي ودروسي التي تعلّمتها بثمنٍ باهظ، ما زلت قادرًا على تأمّل الحياة بكلّ أحزانها وآلامها، وما زلت أردّد دومًا، والحبيب يحنّ رغم كلّ شيْء: ليتني كنت رسالة لم ترسلْها إليّ؛ كي أبقى قارًّا في قلبك أمدًا طويلًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى