فارس الأحلام المكسورة

( الجسرة )

*علي زراقط

منذ فيلمه الأول «ضربة شمس» (١٩٧٨)، شكلت «تيمة» الأحلام الموضوع الرئيس في أفلام محمد خان. إلا أنّ «أحلامه» هذه تبدو ـ من منظاره ـ محكومة بالخسارة، والانكسار، ومهزومة سلفاً. من سعاد حسني التي تخسر حلم الحب في «موعد على العشاء» فتتحول إلى الانتقام، إلى يحيى الفخراني الذي يبلعه الريف بعد أن تسحقه المدينة في «خرج ولم يعد» (١٩٨٤)، أو الفخراني نفسه الذي يعود إلى بلاده بعد سنوات من العمل في الخليج، ليجد نفسه عالقاً في أكذوبة كبيرة في «عودة مواطن» (١٩٨٦)؛ أما عادل إمام فيضطر للاختيار ما بين أسرته وكرة القدم التي تشكل متعته الوحيدة في «الحريف» (١٩٨٣)، فيما تتدمّر أحلام ميرفت أمين الزوجة التي تطمح إلى حياة رومنسية مع زوج بدا مثالياً، إلا أنه تحوّل إلى كابوس من الأنانية والتسلّط في «زوجة رجل مهم» (١٩٨٨)، لا تتوقف الأحلام عن الانكسار في أفلام محمد خان، كما لا يتوقف الأبطال عن صناعتها من جديد. فيلماً تلو الآخر، يرسم البسطاء أحلامهم على أرصفة الطرقات، في شوارع وسط البلد، مصر الجديدة، في الأرياف القريبة، وفي كل المدينة المتمددة كمارد يحضن أولاده ثم يسحقهم.

المغامرة
غادرنا المخرج المصري/الباكستاني، محمد خان عن عمر الثالثة والسبعين. المخرج الذي ظلّ وفياً لأحلامه حتى النهاية، وعُرف بأنه عراب ما سمّي بـ «الواقعية المصرية الجديدة»، وهو تيّار انتشر في السينما المصرية منذ نهايات السبعينيات وصولاً إلى نهاية الثمانينيات. مع أبناء جيله (خيري بشارة، عاطف الطيب، وداوود عبد السيد) أخرج خان السينما من الأستوديو إلى الشارع، وتبنّى السرد على طريقة المغامرة. يدخل أبطاله الفيلم في حال من الأمل، في حال من الحركة تصف أصل شخصياتهم. في «أحلام هند وكاميليا» (١٩٨٨) نفهم منذ المشهد الأول أن هند (عايدة رياض) فتاة بريئة تريد السترة، فيما كاميليا (نجلاء فتحي) تبدو متمردة. كلتاهما تريدان التخلص من الشقاء وتجمعهما الصداقة، يشكل اللقاء بينهما مساراً يقود إلى المغامرة المرتكزة على التناقض في بنية الشخصيتين، فتتوالى الحالات التي تستدعي منهما اتخاذ خيارات، كلّ خيار يؤدي إلى مأزق جديد، وتستمر الدوامة إلى ما لانهاية. هي دوامة الخروج من بنية الحماية العائلية لنساء ضمن مجتمع صغار الكسبة. البنية مشابهة أيضاً لفيلم لاحق لخان هو «بنات وسط البلد» (٢٠٠٥) حيث نرى هند صبري، ومنة شلبي الآتيتين من الضواحي البعيدة تحاولان البحث عن الحب في وسط البلد، لتقعا في الكذب.
لا نقاء في أفلام محمد خان، كما أن لا شرّ مطلقا (إلا في استثناءات قليلة) ولا خير مطلقا. كل الشخصيات آثمة بشكل من الأشكال، كل الشخصيات ضحايا لقوة أكبر منهم. حتى أحمد زكي في «زوجة رجل مهم» (١٩٨٨) الضابط المتسلط، القامع لزوجته، والمتزلف للسلطة الأعلى حتى ولو على حساب الحق، يبدو قليل الحيلة أمام الظلم الذي يحيق به، يبدو مخدوعاً من النظام الذي آمن به، ومظلوماً في انسحاق أحلامه. الأمر الذي يجعله يخرج كبته هذا في زوجته، الى أن يؤدي به هذا الصراع الداخلي إلى قتل نفسه. في هذا الفيلم قدّم أحمد زكي أحد أفضل أدواره من حيث تركيب الشخصية، كما قدّم خان قراءة فنيّة مبدعة لحالة من الفراغ الشعوري لشخصيات تسبقها الأحداث، فتتآكل داخلياً في حيز مكاني ضيق هو عبارة عن شقة.

انتفاضة الخبز
نوع من البورتريه لزوجين لا يشبهان الواحد الآخر في شيء، في لحظة مفصلية سياسياً واجتماعياً في مصر، ألا وهي «انتفاضة الخبز» سنة ١٩٧٧، والتي شكّلت وصفاً لتغير المجتمع المصري مع حالة الانفتاح والتخلي عن قيم الثورة الناصرية. هذه اللحظة المؤسسة في تاريخ مصر الحديث، تبدو لحظة مؤسسة أيضاً في قراءة حالة محمد خان السينمائي، الذي عمل في كلّ ثمانينيات القرن الماضي، للتعبير عن هذا الانهيار في الحلم الناصري المتمثل برومانسية عبد الحليم حافظ والأب مهندس الري، ونشوء ما سمّي بمراكز القوى حيث تتبلور القوّة في يد مجموعة من الضباط المرتبطين بمجموعة من رجال الأعمال. في كلّ أفلام خان، نشاهد هذا التعبير عن الهزيمة، الذي شهد ذروته في فيلم «زوجة رجل مهم». هذه الهزيمة التي تبدو محورية، وقاتلة، هي المولّد الأساس للاحساس الرئيسي في قعر الشخصيات التي يقدّمها خان، نوع من الاحساس بالانسحاق الذي يولّد التواتر بين الرغبة في المقاومة والرغبة في الاستسلام. قد يكون هناك دور في هذا الموقف من الحياة، لسيرة خان المحكوم بأن يعيش «غريباً» في البلد التي ولد فيها، ونشأ وعمل، وهو الذي لم يحصل على الجنسية المصرية إلا مؤخراً قبل سنتين من وفاته. وللمفارقة العجيبة أنه توفي قبل أن يتم تكريمه من قبل مهرجان القاهرة السينمائي، الذي كان مقرراً في هذه السنة. كأنه في ذلك يقلّد شخصياته التي تدور في «الساقية» (كما يقول المصريون) وعندما يلوح الأمل تنقلب على نفسها، وتغتال الحلم.
رحل محمد خان أحد صانعي ذاكرتنا السينمائية عن مصر والقاهرة، أحد أفضل مديري الممثلين، والواصف للعلاقات المدينية الحديثة في قاهرة تنمو يوماً بعد يوم لتأكل سكانها. هو الذي حضر الأفلام صغيراً في صالة قرب بيته وواظب على الهرب من المدرسة لأجل المشاهدة، في مغامرة تبدأها الصدفة ويكملها القدر. يبدو لنا في استعادة شريط الأفلام التي أخرجها أنه لم يخرج عن أصل الحكاية. والحكاية في الأصل هي مغامرة تبدأ برغبة، يستدعيها الأمل ووعد بالمستقبل، إلا أنها تنتهي في انكسارات ضرورية لأجل انتاج أحلام جديدة.

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى