عبد الإله بلقزيز على أطراف الأجناس الأدبية

( الجسرة )

*شوقي بزيع

حين اختار المفكر والكاتب المغربي عبد الإله بلقزيز أن يستتبع عنوان كتابه الأخير «على صهوة الكلام» بكلمة «نص» من دون سواها من التعريفات المحددة لطبيعة كتابه، فلأنه يعرف تماماً أن الخيار الآخر المتاح له هو أن يترك الغلاف خالياً من أي تعريف، تاركاً لقرائه وضع الكتاب في الخانة التي يريدونها. ولعلّ الأمر عائد إلى الطبيعة الملتبسة لهذا العمل الذي يختلف اختلافاً بيّناً عن المؤلفات الثلاثين لصاحب «العنف والديموقراطية « الذي انشغل بالدراسات والأبحاث الفكرية وشؤون الاجتماع السياسي أكثر من انشغاله بالشعر والأدب اللذين اكتفى منهما بدور المتابع المتذوق. فالكتاب، على رغم شاعرية صوره ولغته وأسلوبه، لا يمكن أن يوضع في خانة قصيدة النثر التي تخضع لمعايير مختلفة من حيث البنية والاختزال والتكثيف.
ولا يدخل في باب الترسل النثري العادي لأنه يحتفي بجماليات اللغة وتقنيات التعبير الى حدود بعيدة. ولا يدخل في باب المذكرات والسير الذاتية لأنه لا يتتبع مسيرة الكاتب ومحطات حياته وتفاصيل عيشه، الا على سبيل الإشارة والتلميح العابر. وإذ يأخذ الكاتب ما يلزمه من كل هذه الأنواع والمقاربات ووجوه القول لا يلزم نفسه سوى بشغف الكتابة، وبحاجته الملحة إلى التخلص من حمولتها الزائدة التي ترهق روحه منذ زمن البدايات، وهو المفتون بالشعر والنثر العاليين منذ نعومة أظافره. ولأن بلقزيز يدرك أن كتابه سيفاجئ الكثير من قرائه فقد تولى بنفسه تسويغ عمله العابر للحدود بين الأجناس، عبر قوله على الغلاف الأخير «لا أكتب شعراً، حين أكتب، ولا أكتب نثراً، بل أعبر الحدود بين مملكتين حصينتين، مثلما يفعل المهرب سراًّ. أخشى على كلامي من الجمارك وحراس الحدود، وألعن في سري الدهاقين وسدنة المعابد، يزنون بأصدأ الموازين متاع الروح واللسان، ويدقّون إسفيناً بين الترسل والقصائد».
ينتمي كتاب «على صهوة الكلام»، الذي خصه بول شاوول بمقدمة عميقة ومسهبة، إلى أدب البوح الذاتي والمكاشفة الوجدانية والتخفف من حمولة النفس الزائدة، عبر نص مفتوح لا تحول العناوين الفرعية دون ترابط فصوله ومناخاته. والأرجح أن بلقزيز المصاب بـ «لوثة» الشعر غير المكتملة الشروط، أو التي لم يجد وقتاً كافياً لبلورتها وإنضاجها كان يريد أن يعثر على المعادلة الإبداعية المثلى التي تعفيه من تنكب مغامرة الشعر الصرف من جهة، وتمكنه من العثور على ضالته المنشودة عبر نص طويل يحمّله كل مخزونه من البلاغة المحكمة والافتتان باللغة، من جهة أخرى.
وإذا كان القارئ يلاحظ تدرجاً شبه كرونولوجي في تعقب أحوال الذات المنتقلة من طور إلى طور بين الطفولة والكهولة، فإن الكاتب لا يلتزم بهذا التدرج بشكل دائم بل يترك للمحطات المختلفة أن يتداخل بعضها ببعضها الآخر، بحيث يختلط الماضي بالحاضر ويعود المستقبل إلى الماضي في عملية تبادل مستمرة بين الأزمنة. وإذا كان العمل قد تأخر عن موعد كتابته أو صدوره، فلأن المؤلف المنصرف إلى شؤون وشجون أخرى أراد أن «يعالج» بالكتابة التي تشبهه أحوال نفسه المتصدعة، أو يبتعد ما أمكن عن بؤس السياسة وفسادها. يقول الكاتب في هذا الصدد «كلما كتبت هربت قليلاً مني إلى ما قبلي، كي ألقي التحية على أول التكوين، وأدرّب حروفي على التذكّر. أنا من سلالة تفسح للريح طريقاً إلى طريقها، وللهواء نافذة ليستقر في صحن البيت. أكتب لأتخفّف من شحوم الهم. الذاكرة مرهقة حين لا تجد طريقة لتنظيم روايتها. ويومياتك تشيط عن حاجتك إن لم تعثر في فوضاها على المعنى الضروري الذي يكفي سدّ جوعك».
وعن تليين قسوة الحياة بالكتابة يضيف بلقزيز «الحبر حرب السائل على الصخري، لعاب المعنى يسيل على شهوة مباغتة، وإرواء عطش عادي لمعنى مؤجل منذ الأزل ومؤجج غليله في مرجل روح تتعالى».
لا يأبه عبد الإله بلقزيز كثيراً بسرد وقائع حياته وتفاصيلها كما هو مألوف في كتب السيرة والمذكرات، ولكنه يأبه أكثر بالحديث عن الظروف التي صنعت هويته وحدّدت ميوله. كأنه يعتبر أن سيرة الكاتب الحقيقية هي لغته وإبداعه وإضافته على المنجز الجمعي السابق. لهذا السبب لا يرى الكاتب مسوغاً لاستعادة الوقائع العادية والمملة لحياة واحد من مليارات البشر المقيمين فوق هذه الأرض، بل إن ما يهمه هو الوقوف على ينابيع تكونه النفسي والاجتماعي والتعبيري. فهو لا يتحدث عن النسوة اللواتي أسماهن أمهاته الثلاث، وخصهن بإهداء الكتاب، إلا لكي يشير إلى ما لعبته المرأة الأم في حياته من أدوار مهمة ومحورية، مروراً بلحظات اكتشاف بروق الجسد ونيرانه زمن المراهقة وبالاستجابة لنداء الحب الذي يفرد له بلقزيز فصولاً مفعمة بالوجد والشغف في نهاية كتابه. وثمة أيضاً إضاءات مختلفة على ما يتعلق بالجسد وجيناته المرضية أو المعافاة، وما يتعلق بعشق الموسيقى والطرب للشعر والعلاقة المتفاوتة مع المدن وقسوة الفقد، وبخاصة فقدان الأم، وقبلها فقدان الجدة التي يخاطبها الكاتب بلغة قريبة من النشيج «عنك أقلب كتاب الذكريات علّ فيه ما يدل على رنين صوتك في مسمعيّ. دوخني غيابك، وأمطرني سحابك برائحة الزمن القديم وزهرة البرتقال. كنا قريبيْن كتوأمين لم تنجح الجراحة في فصلهما. أتنفس برئتيك وتأكلين بفمي، وأرتمي في آخر الليل بين ذراعيك لأحتمي من شبح يخيّم على صباي».
وفي الكتاب أيضاً إطلالات من هنا وهناك على علاقة الكاتب بالمدن التي زارها أو أقام فيها مثل فاس وباريس وبيروت وروما وأثينا، حيث لا مسافات كبيرة تفصل بين المدن والنساء وحيث لكل مدينة عبقها ومذاقها وطبيعتها ومفاتيحها المتغايرة. وفيه مقاربات مكثفة وشبيهة بالتعريفات أو التوقيعات، كالحديث عن المعنى أو الليل أو الغياب أو الخلوة أو السفر أو التفاصيل «للتفاصيل شكل رمانة في مائدة التذكر، ما إن تفتحها حتى تتكثّر. لكن طعمها حلو في الحلق أو حامض، تبعاً للمواسم».
لكن ما لم أجد له أي مسوّغ في كتاب «على صهوة الكلام» هو هذا اللجوء الملح إلى التسجيع المفرط والتقفية المتماثلة عند نهايات الجمل، كما في قول الكاتب «ومدى يفيض عن حاجتي من الطلب. لي ما يكفيني من المدن لأقصدها راغباً، وأفرنقع عنها خائباً، ولي منها حطب. وما أجمل الأرب… وما أشقاني حين يخبو في دمي ماء اللهب»، إضافة الى عشرات المقاطع المماثلة. وهو في رأيي ما حرم الأسلوب من عفويته وانسيابه التلقائي، وأعادنا بالذهن إلى الأزمنة الغابرة التي كانت للسجع فيه دولة وسلطان.
الكتاب، على ما فيه من شاعرية، ليس ديواناً مكتوباً على بحور الخليل لكي يستتبع الوزن القافية. وإذا كانت بعض محطاته وفصوله تقترب من قصيدة النثر، فإن هذه الأخيرة تجانب بالقطع شبهة التقفية والتسجيع. الا أن هذه الملاحظة، على وجاهتها، لا تقلل بأي حال من أهمية الكتاب وجمالياته العالية وسبكه الحاذق وثراء صاحبه المعرفي، بما يجعل رهاننا على أعماله الأدبية اللاحقة في محلها تماماً.

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى